تتميز الثقافة العربية بالثراء والتنوع ، فعلى مر تاريخها الطويل قدمت تراثا إنسانيا عظيما يثير الفخر، بدءا بالفنون العربية العجيبة كالشعر والموسيقى والقصة والرواية والمسرح والموشحات، ومرورا بالموروث الشعبي الحافل بالكنوز المخفية، التي تؤكد ثراء الشخصية العربية وقدرتها على الفن والإبداع .
ولكن المشكلة الحقيقية هي الفارق الكبير بين الثقافة والواقع الاقتصادي، نحن أمة أنفقت الكثير من الوقت في تقديم إبداعها الثقافي والإنساني، ولكن لم تحصل على المردود الاقتصادي لذلك، لذلك تظهر لنا هذه النتيجة الغريبة .. أعظم ثقافة وأفقر أمة .
لقد ظلت الثقافة ـ في كثير من العصور ـ عملا تطوعيا وهواية ، لذلك انتشرت مقولة "الأدب لا يؤكل عيشا"، وأصبحت الصورة النمطية للمثقف العربي كما تصورة الأعمال الفنية متواضع الحال، مشغول دائما بلقمة العيش .
وفي الوقت الذي يحصد فيه الأديب في الغرب الملايين سنويا، ويعامل معاملة نجوم السينما، يجلس الأديب العربي على المقهي، يسعل بقوة، يقتطع من قوت يومه ليسافر في القطارات المرهقةمسافات طويلة لحضور ندوة هنا وأمسية هناك، يقنع بشهادة تقدير من الورق، ودرع خشبي.
عدا بعض النماذج القليلة لأدباء إغتنوا من الثقافة، وأكلوا من الأدب "بقلاوة" ، ظلت الثقافة العربية على مر العصور نشاطا اقتصاديا معطلا، وجهدا معنويا توعويا يستهلك الأرواح والأعمار، وهذا وضع يجب أن يتغير.
الثقافة رسالة يجب أن تصل للجميع، وذلك لا يتعارض مع أهمية استغلالها وتنميتها لصناعة المال، والهدف الحفاظ على القيمة الثقافية أولا ، وهو هدف ضروري خاصة في الدول النامية شحيحة الموارد، وتعظيم المردود الاقتصادي للثقافة ثانيا ، وهو أمر مشروع تمارسه كل الدول، وثالثا توفير الحياة الكريمة للمثقف، وهذا حق أصيل له كإنسان ومبدع.
"تعظيم الموارد الثقافية" مصطلح سهل، ولكن تطبيقه يتطلب الكثير من التنظيم والعمل والإبداع، ولنبدأ بإشراك المثقف نفسه في العملية الإنتاجية الثقافية، ووضع آلية للتصنيع، والمزج الذكي بين الثقافة والترفيه، وتطوير المنتج الثقافي، وجعله منتجا مشوقا قابلا للتسويق والترويج، وتأسيس سوق ثقافية قادرة على جذب المستهلك من الداخل والخارج .
سرقت الصين موروثا ثقافيا مصريا خالصا مثل الخيامية، وأنتجت عشرات من المنتجات التي تستلهم هذا الفن كاللوحات والأواني والشراشف والفناجين، وصدرته للعالم، حتى أصبحنا نحن أصحاب الشأن نشتري هذه المنتجات بالعملة الصعبة.
لدينا كنوز ثقافية فريدة لو وجدت المنتج الماهر الذي يستغلها، وتأسيس المصانع الخاصة بها، وإعداد الحملات التسويقية لها، ستدر علينا المليارات سنويا .
المنتج الثقافي كأي منتج يحتاج إلى تسويق وربح، إذا لم يحدث ذلك ستظل الثقافة قطعة يعلوها الغبار، ويبقى الأدب مهمة تطوعية، ويظل الأديب يسعل في المقهى، يقتطع من قوت يومه قيمة السفر مسافات طويلة لحضور ندوة أو أمسية، قانعا بشهادة التقدير، والدرع الخشبي.