التطور التكنولوجي سريع متوثب ، يحدث كل دقيقة، بل كل ثانية، ولكن التغيير في حياة الأمم بطيء جدا لا تلحظه الذاكرة المجردة، ولكنك إذا ابتعدت قليلا ونظرت بعين القاريء، أو الباحث، أو المؤرخ إلى الصورة الكاملة .. ستكتشف حجم التغير الهائل الذي حدث.
التغيير حركة طبيعية في تاريخ الشعوب، وهو يحدث في الأزياء، وقصات الشعر والآثاث، والإكسسوارات، والعمارة، والبيئة، والمجتمع .. بل والأفكار والمعتقدات . هل تتذكرون موضات الشارلستون، والكانيش، والسوالف العريضة التي تظهر في الأفلام المصرية القديمة.. لقد اختفت، وحلت مكانها موضات مختلفة تماما.
التكنولوجيا تتطور، و"الفكر" أيضا قد يتبدل من رأي إلى نقيضه، والتطور عامة يتم غالبا نحو الأفضل والأحسن، فالإنسان يبحث دائما عن الجديد الذي يحقق الرفاهية ويسهل الحياة، سنضرب مثلا بالتلفاز الذي تطور في سنوات قليلة من التلفزيون التقليدي "البدين" إلى تلفزيون الـ LCD النحيف الذي لا يتجاوز قطره 4 سنتيمترات، ثم تطور بعد ذلك للتلفزيون التفاعلي الذكي Smart TV الذي ينفذ تعليمات المشاهد الحركية والصوتية .
وحتى تستقيم الحياة ، يجب أن يواكب الإنسان التطور في الأدوات، والتقنية، والعلوم، والمخترعات وغيرها ..، وهذه المواكبة ضرورية لتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي، وهو عنصر أساسي في الحياة، فإذا كانت حركة تطور المجتمع أسرع من تطور البشر سيحدث الخلل . ويتحول الإنسان إلى مريض نفسي.
هذا الخلل نراه أمامنا رأي العين، فإذا كانت نسب الأمية في العالم العربي ونعني بها عدم القراءة والكتابة 27% ، فإن الأمية التقنية أضعافا مضاعفة . ولعل الدليل على ذلك أن عدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربي بعد 20 عاما من اختراع الشبكة العنكبوتية 125 مليونا فقط. حتى الآن كثيرون يجهلون كيفية استخدام الكمبيوتر، والجوال، وإرسال بريد ألكتروني.
إذا كان التطور المادي ضروري، فإن تطور الفكر أكثر أهمية، وذلك يتحقق بأن يطور الإنسان من ثقافته، ورؤيته، ونظرته للحياة، من الطبيعي أن يراجع المرء كل فترة أفكاره ويجددها، حتى تكون أكثر توافقا مع المجتمع الجديد.
المتابع لسير العظماء سيكتشف أن معظمهم غير أفكاره مرة وإثنتين وأكثر في حياته، وقد ينتقل في سنوات معدودة من أقصى اليمين لأقصى اليسار، ولكن في العالم العربي يرفض الناس أن يغيروا آراءهم، ويعتبرون أن تغيير الرجل لكلمته عار، بينما يعتقد البعض الآخر أن تغيير الفكر يعنى تغيير المعتقد ، وهذا خطأ .. الإجتهاد حركة إنسانية طبيعية. بدونها يصاب العقل بالعطب.
إذا توقف الإنسان، أو تباطأ في مجاراة التطور، ستختل عجلة الحياة ، وسنجد أنفسنا أمام احتمالين لا ثالث لهما . الأول أن نكون أمام مجتمع متخلف اجتماعيا واقتصاديا، يتحول فيه الإنسان إلى مسخ بشري، والثاني هو التصادم بين إنسان يعاني من الأمية الحضارية، وعالم جديد غريب عليه.
من أسباب تخلف العالم العربي هذه الفجوة المستدامة بين الإنسان والتطور ، الغربي يواكب التطور، وفي أحايين كثيرة يسبقه، أما العربي فيكون دائما في مؤخرة ماراثون التطور الإنساني، لذلك قدموا هم المخترعات الحديثة، واستعمروا الفضاء، وقدمنا نحن الإرهابيين، وسكنا المقابر والمناطق العشوائية، لذلك أصبحوا هم حكام العالم، وأصبحنا نحن المحكومين.
والأمر لا يقتصر على التأخر، ففي أحيان كثيرة يسير العربي عكس اتجاه الساعة، فتصبح المشكلة مستحكمة.
الشخصية العربية أسيرة التاريخ، فالعربي يهتم بماضيه أكثر من اهتمامه بمستقبله، وفي بعض الأحيان يتمسك بقديمه، كالطفل الذي يتشبث بلعبة، فيبدو كإنسان خارج عن التاريخ.
يظهر ذلك في الزي الذي قد لا يكون مناسبا للحياة، وأحيانا يكون معيقا لها، كما يظهر في الأدوات التراثية التي يحرص على اقتنائها في عادة لا تجدها إلا في العرب، ويتجلى أيضا في العادات والتقاليد التي يتمسك بها رغم تعارضها مع قيم انسانية عديدة من بينها "الدين"، ويتجسد ذلك أيضا في النظم الدكتاتورية العربية العريقة التي تحكم شعوبها بالحديد والنار، بينما العالم ينعم بالحرية.
الثقافة العربية بما تتضمنه من مديح، ووقوف على الأطلال، وفخر بالأنساب، وتمجيد الفرد، وتعظيم القبيلة، عزلت الانسان عن إيقاع الحياة، فأصبح يعيش في الماضي، ويفخر به، وبالتالي يرفض الحداثة، كالسجين الذي عاش سنوات طويلة في زنزانة مظلمة، فأصبح يخاف الضوء، وإذا حدث، وأطل برأسه من محبسه ليستطلع الجلبة يعود مذعورا للوراء، وقد تملكه الخوف.
العالم يسافر عبر الزمن، والعرب يسافرون نحو الماضي، لذلك لاعجب عندما نرى أجيالا ترفض التطور، وتتمسك بالماضي بأمراضه وأدرانه، وتعتبر كل مستحدث رجس من عمل الشيطان منه. لا عجب أن نرى المتطرفين والمتشددين الذين يكفرون المجتمع ، ويخرجون عليه بالسلاح.
التطور سمة أساسية للحياة، والإنسان كائن حي ينمو، وإذا لم يواكب حركة التطور بالعلم، والثقافة، والوعي سيتخلف، ونصبح أمام نموذج لسلالة منقرضة من رجل الغابة تثير الضحك والسخرية.