الصُرَاخُ الذي شَقّ فَضاءَنا الهَادِئ فَجْأَةً يخْرُجُ مِنْ غُرفَةِ يوسُفَ. هَرْولَتْ أُمّي نَاحيتَهُ وَقَدْ امْتَقَعَ لون وجْهِها، كَانَ يُشَاهدُ عَلَى حاسُوبِهِ فيدْيو لأصْدِقائِه الّذينَ كانُوا معَهُ فِي المَيدانِ، جُثثٌ مُشَوّهة مُلقَاةٌ فِي كلِّ مَكَانٍ، وأصْواتُ الرَّصاصِ تُدوّي، المَشْهَدُ مُروّع.. وأخي مُنْهارٌ وَيَبكِي بحُرْقةٍ.. !
تَجاهَلَ حُضْنَ أمّي، خَرَجَ وَصَفَقَ البَابَ بقُوّةٍ، أخَذتْ تُنادِيهِ، لكِنّ البَابَ المُغلقَ مَنعَ صَوْتَها منَ الوُصولِ إليْهِ، تلكَ هي المَرّة الأُولَى والأخِيرَة الّتي تُنادِيهِ فِيها ولمْ يَسْتَجِبْ لندائها.
شَدّت أمّي كُرسِيًا، وبقِيَتْ تَنتَظِرُهُ خلْفَ البَابِ، يُغلِّفُ قلْبَها أَمَلٌ ممزوجٌ برجاءِ أنْ يَعودُ يوسفُ يَوماَ، وتُعاتِبُهُ علَى خُروجِه دُون أنْ يُقبّلَها.
ومن وقتها أضْحىَ الحيّزُ الضّيّق مَا بَيْنَ البَابِ وشُرْفَةِ المَنْزلِ كُلَّ عَالَمِها، عَلّ رِيحَ يوسُفَ تَصِلها، أوْ علَّ بُشْرى خَبَرِ قُدومِهِ تُفْرحها. تَوقّفَ عَقْلُ أمّي عِنْدَ تِلْك اللّحْظَةِ؛ لحْظَةَ خُرُوج يُوسُف وإغْلاقِهِ الْبَابَ. كَادَت عيْناهَا أن تبْيَضّا منَ الحُزْن، تَنظُرُ في أسًى إلَى قَميصِهِ الأبْيضِ الّذي أحْضرَتْهُ لهُ، وصمّمَتْ أنْ يَكونَ لِعُرْسِهِ، تَتَحسّسُه، تَحضُنُه، تُقبِّلُهُ وتضَعُهُ بِجِوارِ بِذْلَةِ العُرْسِ. تنَظِّفُ غرْفتَهُ، تُرتّبُ كُتبَهُ، ابْتسَامةٌ خَفِيّةٌ تَصْدُرُ منْ قَلْبِها كأنّها تَراهُ أمَامَها، وتُعاقِبِه علَى فعْلتِه، تفْتَحُ ذِرَاعَيْها تَهُمّ بِضَمِّه...
"خلاص يا حَبِيبي... يا يُوسُفي مسامْحاك"
تَسقُطُ علَى الأرْضِ عنْدَما تُمْسِكُ بالخَواءِ!
تظَلُّ قابِعَةً علَى الأَرْض، تَرفُضُ مُحاوَلةَ مُساعَدَتي لها، تَنْهَرُني: من أنتِ؟ ابْتعِدي، أنا مَازِلْتُ قوِيّةً.. سوْفَ يرْفعُني يُوسفُ إذَا سقَطْتُ ويقِفُ إلى جَانِبي عنْدَما أمرَضُ، سوْف يرْقُدُ بجِوارِي حتى إذا أحسستُ باقْتِرابِ الأَجَلِ يُلقّننِي الشّهادتْين، وهُو منْ سوْفَ يَحْملُني لمَثْوايَ الأَخِيرِ.
خِفتُ علَى أمّي أنْ يَكونَ الخَرَفُ قدْ أصابَها؟!
لقَدْ نَسِيِتْ منْ أكونُ...!
ذَهبْتُ أبْحثُ عنْه، رُبّما أجدُهُ حيًّا أو حتّى ميتًّا، فأُحْضِرُه لأمّي.
شَعرْتُ بالاخْتِناقِ، بالجُدْران تُطْبِقُ علَى أنْفاسِي، قلْبي يَكادُ يَنْفَجِرُ، الرُّعْبُ يَتلَبّسُنِي، يُمسِكُ بخِناقِ تَفْكِيرٍي، فِي ثانِيةٍ مِنْ غَفْلةٍ يَتَراكَمُ الضّبابُ... يَتكاثَفُ، تَغيمُ الرُّؤى، يَغيبُ العقْلُ... وأنَا أهْوي، سَكاكينُ تبرُزُ، أنْيابٌ حادّةٌ تَغرِزُ أنْصالَها فِي جَسَدي، تُقطِّعُ لَحْمي، تتَطايَرُ درَجاتُ السُّلّمِ أمَامَ نَاظِريَّ، تَفتَحُ أشْداقَها، تُطْبِقُ على الجَسَدِ، أُواصِلُ الانْزلاقَ السّريعَ، أشْتَمُّ رائِحتَهُ، تَهْوِي الرّائِحَةُ، صَوْتُ يوسُفَ، صَرخاتُ أمّي عَلى وَلدِهَا، وَجَعٌ قَاصِمٌ يَعْتَصِرُنِي، تَغِيبُ الدّنْيا، يَغيبُ الوُجودُ...
أصْدِقاؤُهُ قَالُوا: لَقَدْ مَاتَ. احْترَقَتْ جُثّتُهُ مَع الشّهَداءِ.
يَنْخُرُ جَسَدٍي الألَمُ، يُمَزّقُ الخَبَرُ أعْصَابِي، سَيَكونُ هَذا الخَبرُ أشْبَهَ بصَاعِقَةٍ!
كَيْفَ سَأُقْنِعُ أمّي بأنّهُ مَاتَ مُحْتَرِقاً؟!
تَمنّيْتُ أنْ أجْمَعَ رُفَاتَهُ لِتَشُمَّ أمّي رَائحَتَهُ عَلّهَا تَصْبِرُ عَلى فِراقِهِ وَتسْترْجِعُ صَوابَها وتَعُودُ كَمَا كَانتْ..انْتابَنِي سُؤالٌ أخيرٌ بإجابَةٍ مُرْعِبَةٍ:
أيْنَ هُمُ الّذينَ احْتَرَقُوا؟
تَبخّرُوا عَنْ آخِرِهِمْ
نَظَرْتُ إلَى أمّي نَظْرةَ شَفَقَةٍ وَحَنانٍ، أصْبَحَتْ كطِفْلةٍ صَغيرَةٍ تَنْتَظِرُ أبَاهَا الّذِي رَحَلَ!
بَدأتْ أسْنانُهَا تتساقطُ، زهِدتْ فِي الزّادِ والمَاءِ، غَزَا البَياُض سَوادَ شَعْرِهَا، وهِي مَا زَالتْ تَنْتَظِر...!
لَمْ أكُنْ أصَدِّقُ يَوْمًا أنّ تِلْكَ المَرْأَةَ الّتي كَانتْ بِالأَمْسِ قَويّةً ستَتَداعَى اليَومَ هَكذَا! كحائِطٍ عَتيق، فمُنْذُ رَحِيلِ أَبي أصْبَحَتْ هِي رَجُلَ البَيْتِ، أَلْقت الحَيَاةُ جَمِيعَ كَلاكِلهَا عَلى كَاهِلِهَا، تَخْرُجُ كَلَّ صَباحٍ مُرْتَديّةً زِيَّ الرّجَالِ، تَبْحَثُ فِي دُروبِ الحَيَاةِ عَنْ رِزْقِ أَطْفَالِهَا، وتَعودُ أمًّا حَنونًا، محَمّلةً بالخَيْرِ الوَفِيرِ والحُبِّ!
كُلّما طَلَبَ يُوسفُ شَيْئاً، لا تَتوانَى فِي تَلْبِيتِهِ.
كَبرْنَا، وعَرِفْنا أَنّها كانَتْ تَقِفُ عَلى نَاصِيّةِ أبْعَدِ شَارِعٍ عَنْ حَيّنا، تَبِيعُ عَلى عَرَبتٍها فُولاً وَطَعمية...!
أمَامَ القَويِّ تَقِفُ وَقْفَةَ الأشدّاءِ، وتَرْحَمُ الضّعَفاءَ، فتُعطِيهمْ بِلاَ مُقَابِلٍ. رَفَضَتْ كُل مَنْ طَلبَ القُربَ الحَلالَ، قائلةً:
-أنا مُتزوّجَةٌ مِن ابْنِي يُوسُف وَلَدَيّ بِنْتٌ..لاَ مَكَانَ للْغُرَباءِ فِي بَيْتِنَا.
فَتَحَ اللهُ عَلَيها بَابَ الرّزْقِ، تَحَوّلتِ العَرَبَةُ إلَى مَطْعَمٍ، عَلّقَتْ عَليْه لاَفِتَةً مَكْتوبٌ عَليْها: "مَطْعمُ يُوسُف".
غَابَ يُوسُفُ، فَغَابَتْ مَعهُ ابْتِسَامَةُ أمّي التِي كانَتْ تَنْثُرُهَا كَزُهورِ الرّبِيعٍ فِي كُلِّ مَكانٍ... تَرَنّحَ شُموخُهَا، اخْتَلَّ نِظَامُ عَالَمِهَا، وَغاصَ عَقْلُهَا فِي دوّامَةِ النّسْيانِ، لَمْ تَعُدْ تَتذَكَّرُ أيّ شَيْءٍ، الْتَوَى لِسَانُها فِي حَلْقِهَا فأصْبَحَ فَهمُ مَا تُريدُه صَعْبًا، والتّأقْلُمُ مَع الوَضْعِ فَظَيعًا، والتّعامُلُ معَ امْرأةٍ كَبِيرِةٍ تَحوّلَتْ لطِفْلةٍ تَقْضِي حَاجَتَها فِي أيّ مَكانٍ وتَرْفُضُ الاسْتِحْمَامَ حتّى أنْتَنَتْ مُريعًا. حِينَ أقْتَرِبُ مِنْها تُجْهِشُ بِالبُكاءِ، تَصْرُخُ وتَرفَعُ يَديْها حذاءَ وَجْهِهَا كَمنْ يتّقِي عِقَابَا... أحْضُنُها رغَما عَنْها... أوَشْوِشُ لَها... أقَبّلُهَا... أقُولَ لَهَا: يَا أمّي، يُوسُفُ مَاتَ، وَلَنْ نَراهُ ثَانيةً، عُودِي إلى رُشْدِكِ...
جَاءَ الرّدُّ صادِمًا: مَنْ يوسفُ؟
تَوَقّعْتُ أنْ تَنْسَى كَلّ شَيءٍ عَدَا حَبِيبَ قَلْبِهَا...أمْسِ فَقطْ كانَتْ تُنادِيه في نَوْمِها... هَلْ قُضِيَ الأَمْرُ يَا رَبّي؟ وأضْحَتْ كُتْلَةُ النّشاطِ والحَيَويّةِ مُجَرّدَ جَسَدٍ مُنْفَصِل عَنِ الدّنْيا؟
انْخَرطْتُ فِي بُكاءٍ مَرِيرٍ، وَددْتُ لَو أصْبحُ مِثلَها ليخْتفِي ألَمِي ويَنْزَاحَ وَجَعي... تَرْفَعُ رَأسِي يَدٌ طالمَا أحْبَبْتُ خُشُونَتَها الحَبِيبَة... وفِي العَيْنَينِ المُنْطفِئتْينِ رأيتُ شيْئًا يُشْبِهُ النّورَ... وسَمِعْتُ مِنْ غَيْرِ صَوْتٍ: "عِنْدمَا تَرْتِعِشُ اليَدُ، فَيسْقُطُ الطّعامُ عَلى الصّدْرِ، وَلا أقْوَى عَلَى ارْتِدَاءِ الثّوْبِ، فالصّبْرَ... الصّبْر... تَذَكّري مَنْ عَلّمَكِ مَا تَسْتَطيعينَه اليَوْمَ...!
لَمْ أعُدْ أنِيقَةً وَلا جَمِيلَة الرائحة! فلاَ تَلومِينِي وتَذكّرِي كَمْ تَعِبْتُ لأجْعلكِ أنِيقةً تَفُوحُ مِنك الرّوائحُ الزّكيةُ... كُوني معي الآن... الأمَّ... فأنا الطّفْلةُ...!".
عُدتُ للْبُكاءِ وأنا أرْنُو إلى تِلكَ الصّورَةِ المُعَلّقةِ فِي الحَائِطٍ، وَقَدْ نَخَرَها سُوسُ الحُزْنِ وأصْبَحَتِ الوُجُوهُ أشياءً قَدِيمَةً، قِطَعاً مُمَزّقَةً طَالَها الزّمنُ..
حتَّى انْحَنتْ وَنَخِرَها سُوسُ الأَحْزانِ، ثُمَّ سَقَطَتْ فِي بِئرِ النِّسْيَانِ.
هَؤلاءِ الواقِفُونَ بِجِوارِِي قِطْعَةٌ مِن سِنينِ الحُلْمِ والفَرحِ والأمَلِ، وَعُمْرٌ انْصَرَمَ وَلَنْ يَعودَ.
مَسَحْتُ دُمُوعِيَ، وَعُدْتُ لِأُمِي، احْتَضَنْتُهَا كَأنّها طِفْلَتي!
أقسمتُ في نفسِي أَنني سَأشَارِكُها النظرَ للبابِ المُغلقِ في انتظارِ الغَائبِ!