بصراحة أحسد مبارك لأسباب عدة، أهمها رباطة الجأش الشديدة التي يتعامل بها مع ثورة مصر، وهو نفس الأسلوب الذي حكم به مصر على مدى 30 عاما، وهو الأسلوب العسكري الذي ينفع في ثكنة عسكرية، ولا ينفع أبدا في حكم شعب متحضر خلاق.
لقد تعامل مع كل الدمار الذي حدث، والشهداء الذين سقطوا، والمرافق التي دمرت، والمخاطر الحقيقية التي مر بها الوطن، وما تنقله الفضائيات من غليان شعبي، ببرودة أعصاب، وكأن مصر في واد، وهو في آخر، ورغم الكم الذي تعرض له من عبارات السباب والشتم، مازال صامتا كالرجل الذي قرر الانتحار، والوقوف أمام الطوفان.
ورغم قوارير الزجاجات الفارغة والحجر التي تعرض لها، وأي شيء يمكن قذفه، إلا أنه صامد كالديك الشركسي المشارك في مصارعة الديوك، والذي تكالبت عليه الديوك نقرا وعضا، حتى أصبح منزوع الريش، كالكتكوت الخارج لتوه من العش.
والديك الشركسي نوع من الديكة معروف بشراسته وصراعه الدائم مع الديكة الأخرى، مما يتسبب في صلعه الدائم في منطقة الرأس والرقبة، وجاء اللقب استلهاما للمماليك الشراكسة في صراعهم الدائم مع بعضهم بعضا طمعاً في النفوذ والسلطة.
أود أن أقارن بين موقف الرئيس مبارك الآن والذي يرفض التنحي رغم مطالبات الملايين، وموقف الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذي أعلن التنحي عقب هزيمة 1967، اعترافا منه بتحمله المسؤولية التاريخية عن الهزيمة، فخرجت الجماهير في كافة المدن المصرية لترفض قراره، وترجو منه البقاء.
ولا أدري هل هذه حكمة أم عدم إحساس بالمسؤولية الموضوعة على عاتقه؟، ولا أدري ما سبب هذا العناد الذي يتعامل به الرئيس مع ثورة حقيقية قام بها الشعب؟، هل مازال غير مصدق لما حدث؟، أم تراه معزولا في قصره الرئاسي العازل للصوت، والخالي من وسائل الاتصال، أو أجهزة التلفاز، لا يسمع هدير الجماهير الذي يرج الأرض رجا، وتجتمع على كلمة واحدة هي "ارحل".
أم تراه مازال يعتقد ـ كما يصور الإعلام الحكومي الكاذب أن كل هذه الملايين الغفيرة التي خرجت في كل بقاع مصر لتطالبه بالتنحي جماهير قليلة، أو قلة "مندسة".
مبارك يتعامل مع الشعب المصري كشعب فاقد للأهلية، وقد اتضح ذلك على مدى سنوات حكمه الثلاثين، فلم يسمع للشعب يوما، ولكن .. كيف ذلك، وكيف يملي الشعب إرادته، كان مبارك يحمي الفاسدين، وكأن عداء الشعب لهم مسوغ لإبقائهم ودعمهم.
مبارك مازال يتعامل مع الشعب بنفس المنطق، واتضح ذلك في ما قاله للرئيس أوباما عندما طالبه بالتنحي، حيث قال إن أوباما رجل طيب جدا، ولكنه لا يعرف "ثقافة المصريين".
مبارك مازال يتعامل مع الشعب المصري العظيم كمجموعة من الغوغاء، فاقدي الأهلية، لا يستحقون الديموقراطية، ويظهر ذلك في خطابه الأول بعد الاحتجاجات الشعبية، الذي ألمح فيه إلى بلدان مجاورة "لا حققت الأمن ولا الديموقراطية"، الرئيس يرى أن الشعب المصري لا يستطيع ممارسة الديموقراطية.
مبارك يرفض أن يترك الحكم، ويعلل ذلك بأن تنحيه اليوم سيحدث فوضى، وهو أيضا مازال حتى اللحظة الأخيرة مصرا على استخدام "بعبع" الإخوان، ويقول إنه لو ترك الحكم الآن لسيطر "الإخوان" على الحكم.
مازال الرئيس مبارك يرفع سيفه الخشبي ، ويصور للعالم أن ثورة الشعب الحقيقية، حركتها أصابع خارجية، النظام المصري كله لا يصدق أن هذه الثورة مصرية خالصة لا دخل للمعارضة بها، ولا الإخوان، وليس لها أجندات خارجية.
هل كانوا يعتقدون أن الشعب المصري مجموعة من البقر لا وظيفة لها إلا الطاعة، قال وائل غنيم المدير التنفيذي لشركة "جوجل" ومؤسس صفحة "كلنا خالد سعيد" على فيسبوك والذي كان أحد الناشطين الذين أشعلوا ثورة 25 يناير، وذلك بعد اعتقاله 12 يوما بمعرفة جهاز أمن الدولة "إنه موسم التخوين، كان الضباط الذين يحققون معي لا يصدقون بأنني أتصرف بمبادرة شخصية مني مع زملاء لي مثلي، أنا متهم بتنفيذ أجندات خارجية، إلا أنهم مع الوقت اقتنعوا بأنني لست خائنا ولا عميلا"..
وعندما أعلن مرشد الثورة الإيرانية خامئني تأييده للثورة، وجد النظام فرصته في الخروج مرة أخرى من تحت الكراسي، ليقولوا: انظروا، ملمحين إلى أن هذه الثورة لها أجندات خارجية، وليواصلوا نفس منهج التخوين والتخويف والترويع الذي كانوا يمارسونه. نفس الأمر حدث مع تركيا، العدوة اللدودة للنظام، فعندما طالبت تركيا الرئيس بالإذعان لمطالب الشعب وذكرته أننا كلنا فانون"، ترك وزير الخارجية المصري أبو الغيط كل دول العالم التي طالبت بنفس المطلب ليمسك في خناق تركيا، ويوجه احتجاجا للسفير التركي على تدخل تركيا في الشؤون الداخلية المصرية.
أما رؤساء تحرير الصحف القومية الذين ظلوا لسنوات طويلة يخدعون الشعب، ويضللون الحاكم، وظلوا لسنوات طويلة يعزفون على نفس النغمة النشاز، ويخوفون الناس من الإخوان، ويعلنون عن توجسهم ورعبهم من استيلاء قوى متطرفة على الحكم، فقد خرست ألسنتهم عند اندلاع الثورة، ولكنهم وجدوا في تصريح خامئني أيضا قشة الغريق، فأطلوا برؤوسهم مرة أخرى ملمحين إلى هذا الدور الخارجي الوهمي.
خلا عصر الرئيس مبارك من الرؤية، وكان الرئيس في كثير من الأحيان أشبه بالموظف الذي يذهب إلى عمله في الصباح في الوقت المحدد، ويغادره في الوقت المحدد.
أما السلبيات فكثيرة، أولها إضعاف الدور المصري عربيا وإفريقيا وعالميا، وتفشي الفساد، وزيادة معدلات الفقر، واتخاذ مواقف سياسية منحازة لأميركا وإسرائيل، دون النظر إلى وضع مصر العربي والعالمي، والبعد الأخلاقي في السياسة الخارجية، إضافة إلى إحكام القبضة الأمنية، مما جعل البلاد في كثير من الأحيان أقرب إلى الدولة البوليسية التي لا قرار فيها إلا للأمن، إضافة إلى إضعاف القضاء، والأحزاب، والتعتيم على قطاع عريض من الكفاءات، وإتاحة الفرصة لمجموعة كبيرة من رجال الأعمال وغير الأكفاء لتولي المناصب والوزارات والمسؤوليات، والتضييق على الحريات.
الأخطاء التاريخية لعصر مبارك سيسجلها التاريخ، وسيبدأ في ذلك من الآن، وسوف يتكشف العديد من الحقائق المروعة، ولعل ما بدأ منها في الظهور ما تشير إليه التحقيقات الجارية الآن حول الدور الحقيقي لوزير الداخلية السابق حبيب العادلي في تفجير كنيسة القديسين، وما خفي كان أعظم.
مصر تحتاج إلى عملية خطيرة لتغيير الدم، لا يكفي تنحي مبارك، ولكن الأهم تنحي النظام الفاسد بكامله، برموزه، وحزبه، ومجرميه، والمستفيدين منه، وإطلاق دماء جديدة في الجسد العليل، عندها سيتورد وجه مصر، ويعود إلى جماله الذي عرفناه، وعشقناه منذ القدم.