انتقدت لجنة انتدبت للتحقيق في مخالفات بنك مصري شهير طريقة التوظيف في البنك، التي لا تعتمد على الشفافية وتكافؤ الفرص، وأكدت أن مكمن الخطأ في اللائحة الداخلية للبنك التي تجيز للمسؤولين تعيين من يشاؤون، وتحديد رواتبهم كما يشاؤون أيضا دون قواعد قانونية شفافة.
هذه الواقعة تنبهنا إلى نوع خطير من المخالفات منتشر في مصر، وهو المخالفة بالقانون، عندما يفتقر القانون إلى الشفافية والعدالة والقوة ستجد فيه العديد من الثقوب التي تمكن الجناة من الهروب.
ضحكت عندما علمت بموقف اللواء منصور العيسوي وزير الداخلية المصري السابق الذي رفض قرار رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف بإيقاف الضباط المتهمين بقتل المتظاهرين، وتأكيده ـ كما ورد في التصريح ـ أنه "لن يفعل شيئا مخالفا للقانون"، وأن القانون هو الفيصل في إدانة هؤلاء الضباط أو تبرئتهم، وأنه كما قال أقسم عند استلامه الحقيبة الوزارية على الالتزام بالقانون.
وذهب وزير الداخلية الذي مازال قابعا في التشكيل الوزاري الجديد ـ رغم أنف الثوار الذين يطالبون بعزله ـ إلى مدى أبعد عندما قال إنه سيتم التحقيق في الاتهامات الموجهة للضباط، فإن ثبتت فسوف يعاقبون وفقا للقانون، وإن ثبتت براءتهم فإنه سيحاكم من قاموا بتوجيه هذه الاتهامات .. يقصد بالطبع الثوار.
كيف لضابط متهم بالقتل أن يظل يمارس عمله كالمعتاد، وكيف يغفل القانون إمكانية أن يستغل الضابط منصبه ـ وهو مازال في السلطة ـ في محاولة إخفاء الأدلة أو إرهاب الشهود؟.
هناك قوانين مهترئة تسهل المجاملة والمحاباة والاستيلاء على المال العام ، من بينها "الإسناد بالأمر المباشر"، فيكون القانون في هذه الحالة طريقا خلفيا .. نفقا للهروب من العدالة، والأخطر وجود قوانين لا تضع العقوبات الرادعة للجرائم، فتكون العقوبة بسيطة لا تتناسب مع فداحة الجرم، كما يحدث في جرائم الشرف، والتي يحصل مرتكبوها على البراءة ، أو على أحكام مخففة، فتزرع العقوبة المخففة بذلك في نفوس الناس الاستهانة بالقانون، وتكون بذلك دعاية غير مباشرة للمجرمين لكي يرتكبوا هذا النوع من الجرائم أكثر .
القانون قد يكون في بعض الأحيان بطيئا غبيا ضعيفا كسولا، يسهل الانقضاض عليه، وبدلا من أن يكون سيفا للعدالة، يكون سيفا للصوص والخارجين عن المجتمع.
في إحدى قضايا الفساد الشهيرة التي تناولتها الصحف منذ سنوات، وبعد مساجلات كثيرة ومستندات وشهود، انتهى الأمر بحصول المتهم على البراءة، وأوضحت التحقيقات أن المبالغ الطائلة التي كان يحصل عليها المتهم من المؤسسة التي يعمل فيها كانت وفق القانون، إذا فالمتهم هنا لم يكن المدان، ولكن المدان هو القانون نفسه الذي أقر بمنح المتهم كل هذه الملايين سنويا بدون وجه حق.
ثقوب وثغرات القانون كثيرة، وهناك محامون كثيرون يحصلون على البراءة لموكليهم، ليس لأنهم أبرياء، ولكن باستغلال عيوب القانون، ولو أعددنا دراسة بحثية عن الأحكام التي صدرت بالبراءة لخلل في الإجراءات أو لعدم اكتمال الأدلة أو لخلل قانوني سنكتشف أن النسبة كبيرة.
حكم البراءة الحقيقي هو الذي "يثبت" براءة المتهم، ولا يصدر لعدم اكتمال الإجراءات أو لعيوب إجرائية وقانونية. لذلك من المفيد استحداث مصطلح "البراءة البينة" للتفرقة بينها وبين البراءة التي صدرت لخلل قانوني.
أتذكر مصطلحا تم تداوله على نطاق واسع فور القبض على بعض رموز النظام السابق، وهو مصطلح "تستيف الوراق"، وقد نسب إلى بعض من ألقي القبض عليهم، وهو مصطلح يعني أن المتهمين قاموا بإعداد الأوراق التي تؤكد براءتهم بالقانون، لذلك دخلوا الحجز واثقين، تهيمن عليهم سكينة اللص الذي قيل له "احلف .. قال جالك الفرج".
مجرم اليوم ذكي، لا يرتكب جريمته فقط، ولكنه يجمع الأوراق القانونية التي تؤكد سلامة موقفه، انتهى اللص البدائي الذي يرتدي قناعا ويهجم على بنك، ويسرق ما فيه، ولكنه يسرق وهو جالس في منزله بالقواعد، والقروض الرسمية، والتسهيلات، وقواعد التسديد المطاطة، أي أنه يسرق ولكن بالقانون.
السرقة تتم باستغلال مواد وبنود القانون نفسه، قد يكون هناك شيطان في تفاصيل بعض البنود بمثابة ممر خلفي للجناة، أو أن هناك مسافة زمنية واسعة بين القانون وتنفيذه تسمح للجناة أن يغيروا هيئتهم، ويهربوا وسط الزحام.
وربما كان ذلك السبب في أحكام البراءة التي حصل عليها بعض رموز النظام السابق والتي أشعلت غضب الثوار، وأعادتهم مرة ثانية إلى ميادين الاحتجاج.
هناك أسلوب جهنمي يلجأ إليه البعض وهو أسلوب "تضليل القانون"، وذلك بمنحه معلومات خاطئة، تؤدي بالتالي إلى نتائج خاطئة، سلامة المخرجات تتوقف على سلامة المدخلات، فإذا حولت للقضاء متهمين مزيفين، وقدمت له معلومات خاطئة، فمن المؤكد أنهم سيحصلون على البراءة، إذاً فالمشكلة هنا ليست في القضاء، ولكن في المعلومات الخاطئة أو غير المكتملة التي قدمت له.
أحكام البراءة التي حصل عليها بعض رموز النظام السابق لم يكن القضاء مسؤولا عنها، ولكن المسؤول هؤلاء الذين حولوا إلى القضاء قضايا مزيفة أو قضايا مكررة تم البت فيها سابقا، أو حولوا قضايا غير مكتملة، فتكون النتيجة الحتمية هي البراءة. لأن القضاء لا يحكم إلا من خلال الأوراق التي لديه.
هذا كله يؤكد أن القانون ليس فقط يمكن استخدامه في المخالفات، ولكن يمكن في أضعف الحالات التحايل عليه، وغسل المجرمين، بتقديم مدخلات تكون مخرجاتها البراءة.
سيظل المجرمون يتلاعبون بالقانون كما يلعب النصاب بالأوراق الثلاث، وستظل عملية "تستيف الأوراق" مستمرة، طالما وجد قانون بثقوب كثيرة، وستظل محاولات الوقيعة بين القضاء والشعب، مادمت تقدم للقضاء مدخلات خاطئة.