سألني صديق: من هو رئيس مصر المقبل؟ وبمجرد طرح السؤال تطوع الحاضرون بالإجابة على هذا السؤال الشائك، الذي يعرف والذي لا يعرف، استمعت إلى كل الآراء، ولاحظت أن معظمها اجتهادات وأمان شخصية، ومع تقديري للرأي الخاص، إلا أن الإجابة عن مثل هذا السؤال تحتاج إلى ترجيح العقل على العاطفة، والمصالح العليا على المصلحة الشخصية.
تذكرت الأسماء المشهورة التي طرحت على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي راح البعض يرشحها على سبيل التسلية وحب الاستطلاع، بعضها عمل في السياسة، والبعض الآخر عمل في مجالات أخرى بعيدة.
تذكرت الأحزاب الرسمية التي لا تملك أي قاعدة لها على الأرض، حيث كانت على الدوام مجرد أحزاب شكلية ورقية، ونشاط حزبي عقيم لا يؤيده أحد، وهي إن كان لديها برامج انتخابية، فإنه لا أحد يعلم شيئا عن هذه البرامج التي كانت غالبا حبرا على ورق.
تذكرت الحزب الوطني الذي حكم بالقبضة الأمنية أكثر من 30 عاما، وكيف أنه لا أحد أيضا يعرف برنامجه الانتخابي، فقد حكم على الدوام حكما فرديا سلطويا، لا مكان فيه للرأي الآخر، والغريب أيضا أنه لا أحد يعرف البرنامج الانتخابي لهذا الحزب الذي حكم مصر كل هذه الأعوام، حتى في أوقات الانتخابات النيابية والرئاسية المفترض فيها أن يقدم المواطن صوته لمن يملك برنامجا انتخابيا قويا، لم يحدث ذلك، وكان النظام في كل انتخابات يكتفي بأن يعلن بكل تعال أنه قرر تمديد حكمه لفترة مقبلة، والمعترض "يخبط راسه في الحيط".
حتى الرئيس، لم يسمع أحد على مدى سنوات حكمه الثلاثين عن برنامجه الانتخابي، هل لديه برنامج وما هو؟ لم نسمع عن ذا البرنامج إلا عام 2005 عندما قرر الرئيس ـ تحت ضغط المطالبات الدولية ـ تعديل الدستور لإتاحة الفرصة لأقل عدد من رؤساء الأحزاب للتنافس على منصب الرئاسة، أو بمعنى آخر القيام بدور المحلل للرئيس الذي كان يضمن أوراق اللعبة، ويريد فقط المبرر الشرعي لكي يتزوج مصر للمرة الثلاثين، وكان يعلم جيدا أنه سيفوز ما دام وراءه مجلس الشعب الذي يملك حزبه فيه الأغلبية المطلقة، والجهاز الأمني القادر على البطش بالمعارضين والطامحين المغامرين، والبوق الإعلامي الذي يسيطر على الشعب ويوجهه أينما يشاء.
عندها .. وعندها فقط استمعنا لأول مرة عما سمي بـ "برنامج انتخابي للرئيس"، وحتى مع وجود هذا البرنامج لم يهتم أحد بمعرفة هذا البرنامج وما يتضمنه، ومدى المصداقية فيه، هل هي مجرد وعود كاذبة، أم رؤى مدعمة بالأرقام والوثائق، هل هي مجرد أضغاث أحلام يكتشف المواطن بعد سنوات أنه كان يركض خلف السراب؟ أم أحلام واقعية تستند إلى تقارير وكفاءات ودراسات إكتوارية؟.
ظلت عبارة "البرنامج الانتخابي للرئيس" عبارة يرددها فقط الوزراء والمحافظون وكبار موظفي الحزب الوطني الذين يتملقون الرئيس، لإيهامه بأنهم أتباع مخلصون ينفذون أوامره، وظل المسؤولون يضللون الشعب بـ "برنامج السيد الرئيس" الذي يعد الشعب بأكل الجاتوه، بينما هو في الواقع يتشاجر أمام المخابز على لقمة العيش.
من سيكون رئيسا لمصر؟ .. رئيس مصر هل سنختاره "علشان سواد عيونه " كما يقول التعبير الشعبي؟، هل سنختار المشهور صاحب التجربة السياسية؟ ، وصاحب الكاريزما والكلام المعسول؟ ، هل سنختار رئيس الحزب الذي يتاجر بآلام البسطاء، هل سنختار خفيف الدم القادر على إطلاق النكات ؟ ، هل سنختار ابن المحافظة أو المدينة أو المنطقة أو الحي؟ .. هل سنختار الغني الذي يملك الملايين والمصانع والشركات؟، هل سنختار "الحبّوب" القادر على إضفاء المرح في المكان؟ .
بالطبع لا .. ، سنختار من يملك برنامجا انتخابيا أمينا يضع فيه رؤيته لمصر المستقبل، البرنامج الذي يشارك في إعداده نخبة من أساتذة الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا وعلم الإدارة، برنامج لا يحلق في الهواء، ولكن يمشي على قدمين، ويستند إلى أرقام ووقائع وخطط ورؤى مستقبلية.
شخصية الرئيس ليست مهمة بقدر أهمية الدستور، فالرئيس بشر يخطئ ويصيب، وقد نحسن الاختيار مرة، ونخطئ الاختيار مرة أخرى، ولكن الدستور الأمين هو القاعدة المتينة التي لا تتغير، الدستور هو الذي سيحمي الحرية والديموقراطية والأمانة والوطنية، ويرسم مستقبل الأجيال الجديدة، وهو الضمانة الحقيقية لحاضر هذا الوطن ومستقبله.
نريد دستورا جديدا يليق بمصر في عهدها الجديد، هذا الدستور لا يضعه ترزية القوانين الذين ابتليت بهم مصر على مدى 30 عاما، ولكن يضعه مصريون يؤمنون بمصر وبالدور الذي يجب أن تضطلع به في عهدها الجديد.
نريد دستورا يحمي الحرية والكرامة والعمل والإنتاج، نريد دستورا يمنع الرئيس من السرقة والخيانة والانحياز. إذا أراد أن يسرق يقول له القانون.. "لا"، وبأسلوب آخر No Way ، وبلهجة شعبية بذيئة "....."، وإذا سرق سيجد 100 شخص و 100 جهة تضبطه وهو يحمل غنيمته على ظهره، وقضاء شريف "مفتَّح" يحاكمه كما يحاكم أي مواطن انحرف عن الطريق القويم، ويكون لهذا القانون سلطة الحكم عليه وعزله وسجنه إذا تطلب الأمر ذلك. ليس ذلك فقط.
ولكن الأهم وجود سلطة تنفيذية لا سلطة عليها إلا القانون، سلطة تنفيذية شريفة قادرة على تطبيق القانون حتى ولو كان على فخامة الرئيس. إذا نجحنا في إعداد هذا الدستور الحلم فلا تخافوا، ولا تنزعجوا ، ولا تحاروا، سيكون الدستور هو الحاكم الفعلي، وسيكون عندها الرئيس موظفا يقضي فترة رئاسته لفترة محددة، ثم يحل مكانه مصري آخر.
أيها المصريون .. هذه لحظة فارقة من تاريخكم، فلا تختاروا رئيسكم بعواطفكم، اختاروه بعقولكم، بناء على برنامج انتخابي يقدمه، ووعود يقطعها على نفسه بالدم والنار، لأن هذا البرنامج سيكون هو المحك في المتابعة والتقييم والحساب، وسوف يكون المحك في نجاح الرئيس أم فشله .. في استمراره أو سحب الثقة، هذا البرنامج وغيره من البرامج سيكون قاعدة مصر المقبلة بقوة لتأخذ مكانها الحقيقي في طليعة الأمم.