لا أدرى من العبقري الذي اخترع حركة عدم الإنحياز، المعلومات التي عندي تقول أنها تأسست عام 1961، في بلغراد، كنتيجة للحرب العالمية الثانية (1939-1945)، التي أبرزت الحاجة إلى إلغاء نظام المعسكرات السياسية الذي كان السبب الرئيسي في مقتل الملايين وتهديد الأمن العالمي في حروب عالمية عبثية.
وكان المؤسِّسون هم : جواهر لال نهرو، جوزيف بروز تيتو، أحمد سوكارنو، جمال عبد الناصر، كوامي نكروما، وانضم لها فور التأسيس 29 دولة.
عدم الإنحياز يعني ببساطة أن لا تنحاز لأحد، حتى لو كان هذا الأحد على صواب ، وأتصور مادار في ذهن مبتكر الحركة، عندما رأى الويلات التي جلبها الإنسان للعالم، فرأى أن عدم الانحياز ضمانة لعدم تكون هذه المجموعات الخائبة التي دمرت العالم مرة أخرى .
عدم الإنحياز رغم موضوعيته فعل سلبي، فهو يعني الصمت عن قول الحق، حتى ولو كنت تعرفه وتراه رأى العين، وتقف في الصف تتفرج ، هو إذن موقف شيطاني ، فالشيطان فقط هو من لارأى له ولا موقف ، ولديه مهمة وحيدة وهي الإيقاع بالناس، وقديما قالوا "الساكت عن الحق شيطان أخرس".
عدم الإنحياز فكرة وجيهة من حيث الشكل، خاطئة من حيث الموضوع، ففي هذا العالم الذي يتشارك البشر العيش فيه لابد من قانون عام نحتكم إليه ، مباديء، أخلاقيات، نقاط عامة يجب الاتفاق عليها، وإلا أصبحنا كالحيوانات التي تتواجد حسب قانون الانتخاب الطبيعي الذي يعتمد على معيار واحد فقط وهو القوة .
ولكن رغم ذلك كله ، هل نجحت حركة عدم الإنحياز ؟، هل أنهت العصب والمجموعات والمعسكرات السياسية في العالم ..؟ لا !
الانحياز بمعناه المدمر الحاد انتهى، بسقوط المعسكر السوفييي على يد ميخائيل جورباتشوف في 1991، ولكن المعسكرات ظلت موجودة على الأرض، وأمامنا العديد من الأمثلة، فهناك الحرب التجارية بين واشنطن وبكين ، ولدينا أيضا معسكر أمريكا اللاتينية من ناحية والمعسكر الغربي من ناحية أخرى والذي لازال مشتعلا رغم الوفاق الشكلي بين الأمريكتين الشمالية والجنوبية .
إذا أردت الدقة انفجرت في وجوهنا ماسورة المعسكرات، فبعد أن كان أمامنا في الستينات معسكرين فقط هما المعسكر الشرقي والغربي ، أصبح لدينا مئات بل آلاف المعسكرات، حتى أصبح في المدينة الواحدة مئات الأحزاب والتجمعات والأفكار المتنافرة المتضاربة في السياسة والمجتمع والفكر والثقافة ..، كل معسكر يتعصب لنفسه، وينصب مدافع الهاون على حدوده مستعدا للضرب في المليان إذا وجد أحدا يخالفه ولو بالرأي، المعسكر أصبح داخل الإنسان الواحد يأخذه يمينا مرة ، ويسارا مرة أخرى.
حركة عدم الإنحياز كانت حلا مؤقتا ، مورفينا للفصل بين متعاركين ، ولكنها لم تلغي الخلاف بين الإثنين الذي ظل كل منهما يتربص بالآخر ويقول "هأوريك".
حان الوقت لإعلان "حركة الإنحياز" تتضمن أسس عالمية للتعايش .. مباديء إنسانية وقواعد لا يمكن الخلاف عليها، وإذا اختلفنا "ننحاز" لهذه القواعد، بذلك فقط نبقى على كوكب الأرض .