أرسل لي باحث شاب دراسة للنشر وعندما تصفحتها فوجئت أنها مجموعة من المعلومات التاريخية المجمعة من الإنترنت الخالية من أي جهد بحثي، فتحسرت على زمن الباحثين العظام الذين تتلمذت على أيديهم ومنهم الدكتور محمد مصطفى هداره رحمه الله.
تذكرت عندما كنت طالبا في كلية الآداب جامعة طنطا، كان الدكتور هدارة يقول أن من يقدم الإجابات في الإختبار كاملة سيرسب، لأنه بذلك اتبع قاعدة "بضاعتنا ردت إلينا" ، وأن النجاح والتقدير فقط لمن يبدع ويقدم إلى جوار الإجابة النموذجية فكره الخاص.
تذكرت مناقشة رسالة دكتوراة كان يرأسها الدكتور عبده الراجحي ، الذي شن على الرسالة هجوما عنيفا ، وطلب من الباحث حذف مئات الصفحات منها لأن لاقيمة لها، وكيف كان يشيح بيده أثناء النقاش حتى كاد يطيح بزجاجة الماء الموجودة أمامه ، حتى كاد الباحث أن يبكي، وكيف تحولت المناقشة المأزومة إلى فرح عندما أعلنت اللجنة حصول الباحث على الدكتوراة بتقدير إمتياز .
يقلقني جدا الهبوط الكبير في الأداء، ليس في مجال البحث الأدبي فحسب ، ولكن في مجالات عدة مثل الطب والهندسة والتعليم، والصحافة، والبحوث العلمية، والفنون، والرياضة، والإعلام، .. حتى المهن الحرة ، تراجع فيها الأداء، وأصبحنا نرى فئة من الصنايعية المدعين الذين يحترفون الفهلوة، ويدعون أنهم يفهمون في كل الحرف، والنتيجة خسارة المزيد من الوقت والمال.
هناك هبوط مريع في الأداء شهدته المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة، ورغم أن الجيد والرديء ثنائية موجودة في كل عصر، إلا أن الرداءة انتشرت في السنوات الأخيرة ، فتقدم الجهلاء وضعيفو القدرات ، وتراجعت الكفاءات القهقرى.
حذرنا مرارا من هذه الظاهرة ، ولكن اليوم استفحل الأمر ، فانهار التعليم، وتراجعت الصحة، ولفظت صناعة القطن أنفاسها، وارتفعت الأخطاء الطبية، وانتشر الغش الجماعي واستبدال أوراق اختبارات الطلاب، وتفاقمت المشكلة الاقتصادية ، وتراجعت القيمة، وتلاشت الجدة والابداع والابتكار.
لو تتبعنا حركة الكفاءات في المجتمع والتحديات التي تواجهها، وأعددنا رسما بيانيا لها في العشر سنوات الأخيرة فقط، سنكتشف أن مؤشر الكفاءة يهبط بزاوية حادة كالإنهيار السريع بالبورصة، ورغم أن التراجع كان سمة القرن، لم نكن نتصور أبدا هذا الإنهيار السريع في معظم المجالات، وأننا سنصل في غضون سنوات قليلة إلى ما تحت الصفر.
لن نتحدث الآن عن السبب، هل هي الحرب العربية التقليدية التي يواجهها الكفء، والميراث الضخم من الواسطة والمحسوبية والمجاملات، والفساد السرطان الذي يستشري في جسد الأمة، أم أن الأمر بالبيئة أو الطبيعة أم غير ذلك ؟، لأن الأمر تخطى ذلك ، فالمشكلة لم تعد تكمن في تهميش الكفء، والثقافة الاجتماعية المعوجة التي تنص على أن "زامر الحي لا يطرب"، ولكنها أصبحت في عدم وجود الكفء أصلا ، واختفاء الزمار من الأحياء والبيوت.
اليوم أنبه لظاهرة خطيرة وهي انقراض الكفاءات، وهذه المرة التحذير سيكون باللون الأحمر وفقا لدرجات التحذير البركانية، فقد تيبس رحم الأمة، فلم تعد تنجب المثقف والعالم والباحث والمتمكن من عمله، ولكن تنجب الأجنة المشوهة .
تاريخ الإضافة: 2018-10-15تعليق: 0عدد المشاهدات :1512