المنع اختراع عربي قديم، منذ أن تعلم العربي الكلام، أدرك ما يمكن أن يفضى إليه لسانه الطويل، وجريا على المثل الشعبي الذي يقول "لسانك حصانك إن صنته صانك" اخترع بسرعة أداة لقمع الكلام، ولكن المدهش أن هذه الأداة غير منظورة، فهي موجودة داخل عقله، فأصبح "المنع" بذلك ثقافة جمعية تتوارثها الأجيال.
كل طفل عربي يولد ومعه "القمَّاعة"، أداة قمع مجانية، كالهدايا التي توزع بعض الشركات بمصاحبة منتجاتها، كل قطعة عليها أداة قمع، شيء يشبه "السكاته" أو "البزازة".. ويبدأ القمع في مرحلة مبكرة جدا عندما يصرخ الرضيع ينهره أبواه، ويتعرض وهو مازال غضا طريا للزجر والنهر، وأحيانا للضرب، حتى ينعم رب الأسرة بالنوم، ليلازمه بعد ذلك القمع كأسلوب للتربية، في كل المراحل، كالدراسة، واللبس، والشرب، والزواج، والعلاقات الاجتماعية.
كانت ثقافة العرب في الأساس ثقافة صوتية، فقبل مرحلة التدوين كانت الثقافة محكية، وكان الرواة يحفظون ويتناقلون الشعر والمأثورات، لم يعرف العرب التدوين إلا متأخرا. لذلك ازدهرت صنعة الكلام، وكان الكلام وسيلة تواصل أساسية في أمة العرب. لذلك كانت ثقافة العرب صوتية في المقام الأول. وعندما يكثر الكلام يكثر الخطأ وفقا للقاعدة المعروفة.
خلت الثقافة العربية من مبدأ أساسي مهم وهو حرية الرأي، واتسم المجتمع العربي بالانغلاق على نفسه، ولم يعرف الانفتاح على الآخر إلا في حالات خاصة جدا، لقد كانت العلاقة بين العرب والآخر على مر العصور علاقة متوترة، علاقة بين مسلمين وكفار، كانت العقيدة هي المحرك الأساسي في علاقة المسلمين بالعالم، ورغم أن الإسلام دين الحرية، يمنح المسلم الحق في إبداء الرأي، ويأمره بالسعي، والتفكر، والتدبر والانفتاح على الآخر، والتعلم حتى ولو في الصين، فإن الفهم غير الصحيح للدين تسبب في وجود فئة تقمع الرأي وتدعو إلى الانغلاق والعزلة، ومن دلائل هذا الفهم الخاطئ أن البعض يعتبر الحرية ضد الدين..
نظرة المسلمين المتوترة للآخر تسببت في عزلتهم، وأفرزت حالة مستمرة من التوجس من الآخر، هذا التوجس كان يزداد أحيانا ليبلغ حدودا واضحة من الحدة، ويخفت أحيانا أخرى إلى حد غير منظور. ولكنه ظل موجودا كالمرض الكامن في الجسد، يتسلل شيئا فشيئا.
لم يعرف المسلمون الانفتاح على الآخر بمعناه الحقيقي إلا في العصر الحديث. عندما نشطت البعثات الدراسية، ولكن هذا الانفتاح البطيء ظل مكبلا بقيود اجتماعية وموروثة من الصعب تغييرها، وتقاليد تتوجس من الآخر، وتحتاط منه ، وتحكم عليه ـ فقط ـ بالمعيار الديني القديم.
إذا تتبعنا التاريخ السياسي العربي وحكّمنا المعيار الديمقراطي سنكتشف أن معظم العصور السياسية بعد الخلفاء الراشدين كانت مستبدة، وكانت غالبية أنظمة الحكم تعتمد على التوارث والعصبية، ولم يعرف العرب الديمقراطية بمفهومها الحقيقي، عدا عصور قليلة كانت الشورى فيها وسيلة لاختيار الحاكم، والمبايعة عنصرا أساسيا ليختار الشعب حاكمه.
كان المنع على مر العصور نوعا من الثقافة الاجتماعية، التي لا تعطي المرء حرية الرأي، وقد أفرز ذلك الديكتاتورية العربية الشهيرة التي لا تعترف بحق المواطن بإبداء رأيه، واختيار حاكمه، أو النظام السياسي الذي يخضع له. هذه الدكتاتورية التي جعلتنا مصنفين ضمن العالم الثالث المتخلف، وكانت السبب في الهزائم المستمرة التي تعرضنا لها على مر التاريخ.
كانت ثقافة المنع مبررة على طول الوقت، غير خاضعة للنقاش، فالمواطن العربي لم ينعم بالاستقلالية أبدا، وكان دائما يعامل وفقا لمعايير عائلية، وجنسية، ومجتمعية، وعرقية، لم يقيم بناء على قدراته الخاصة، وكان خضوعه يبرر ويترجم بطريقة خاطئة إلى معان مزوقة تدور حول معاني التبعية، والأبوية، والولاء.
وساعدت كل هذه العوامل على تسلط أنظمة الحكم، واستئثارها بالسلطة، وكانت الثقافة العربية في كثير من الأحيان الحاضن الطبيعي للدكتاتورية سواء أكان ذلك على صعيد الشخص، أو المجتمع، أو النظام السياسي.
في العالم الغربي كانت الصورة مختلفة تماما، فقد نشأ المواطن الغربي الحديث على حرية الرأي، وكانت حرية التعبير أهم المكتسبات التي حققها بعد سنوات من عصور الظلام. ربما يفسر ذلك تمسك الغربي بهذا المكتسب وإصراره عليه. واعتباره أحد مرتكزات الحضارة الغربية. حتى لو تسبب ذلك في تجاوزات.
أفرزت حرية الرأي في العالم الغربي أنظمة ديمقراطية يخرج حكامها من بين الناس، وعن طريق صندوق الانتخابات، بينما أفرزت ثقافة المنع في العالم العربي أنظمة دكتاتورية تحتكر السلطة وتتوارثها على مر السنين.
والمتابع للمشهدين الغربي والعربي سيجد مفارقة مثيرة، فالعالم الغربي يتمسك بالحرية حتى لو أفرز ذلك مجموعة من الأخطاء، والعالم العربي يتمسك بالمنع حتى لو كان له ضحايا. من هنا كان الاختلاف الجذري بين أمتين ظلت علاقتهما على الدوام علاقة توجس وخيفة واحتراز في أضعف الأحوال.
ولكن الواقع يؤكد دائما هزيمة معسكر المنع، وتقدم معسكر الحرية، لقد جعل التطور الهائل الذي حدث في مجال التقنية والاتصالات معسكر المنع في مأزق، ففي عصر الإنترنت والفضاء المفتوح والانفجار المعلوماتي أصبح سلاح المنع سيفا خشبيا لاجدوى منه.
ولكن على الرغم من ذلك فإن العرب عشاق المنع مازالوا يقاومون الحرية، ويصرون على منع مواقع الإنترنت، والصحف، والقنوات الفضائية. تحت الدعاوى الإنشائية التي ظلوا يرددونها قرونا طويلة ومنها الحفاظ على قيم المجتمع، وهدفهم في الحقيقة الحفاظ على تسلطهم التاريخي على الشعوب، وبدا ذلك كمن يحاول أن يحجب الشمس بإصبعه، أو يوقف مجرى النهر بيديه.
للحرية أخطاؤها، لاشك في ذلك، ولكن أخطاء الحرية تظل دائما قليلة إذا ما قورنت بأخطاء المنع المدمرة، وهذه الحقيقة التي توصل إليها الغرب منذ سنوات بعيدة، ولم يدركها العرب بعد.
"المنع" أداة قمعية تجاوزها الزمن، أفرزت لنا الفشل، والفقر والتطرف، والضعف، والهزيمة، والهوان، والمذلة، ولكن العرب لا يريدون أن يفهموا ذلك، لذلك كان الغرب يتقدمون بثبات نحو النهضة، بينما العرب يتقدمون بثبات نحو الهاوية.
حرية التعبير كالماء والهواء.. حق أساسي من حقوق الفرد والجماعات، يماثل الحق في الحياة، والاعتداء على هذا الحق جريمة ضد الإنسانية.