لا أصدق أن أميركا مبتهجة بالثورات العربية، لا أصدق أنها راضية بسقوط رجالها في الشرق الأوسط واحدا تلو الآخر، التلاميذ الأوفياء الذين كانوا لا يأكلون إلا إذا أكلت أميركا، ولا يهرشون رؤوسهم إلا إذا هرشت أميركا رأسها، ولا يقضون حاجتهم إلا إذا قضت أميركا حاجتها. كيف يستقيم الفرح ، وأميركا تخسر واحدا تلو الآخر من الرجال الذين كانوا يأتمرون بأمرها، وينفذون أجندتها بالحرف؟.
لست مرتاحا لما قالته هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية خلال زيارتها لميدان التحرير، لا أثق في ابتسامات وتهاني المسؤولين الأوروبيين الذين يتوافدون على زيارة الميدان مبهورين بثورة الشعب الذي أعلن كلمته، وتحرر من القيد وأسقط النظام. تذكرت حينها "الضحكة الصفراء" التي وردت في الموروث الشعبي، وهي الضحكة التي تخفي وراءها الغل والكره والحسد.
لقد كانت أميركا دائما راعية للأنظمة الدكتاتورية في العالم، تستمد من وجودهم نفوذها في المنطقة، وقيل إنها هي التي نصبت بعض حكام العرب ودعمتهم، وزاد نفوذها في العالم العربي، حتى وصل الأمر إلى اعتقاد عام بأن ما من رئيس سوف ينصب وأن ما من ملك سيتقلد منصبه إلا بموافقة السيدة أميركا.
وسواء أكان ذلك الاعتقاد حقيقيا أم صناعة شعبية، فإن شيوع مثل هذا الاعتقاد يؤكد حالة الإحباط العامة التي كانت سائدة لدى الشعوب العربية، ونفوذ أميركا القوي في المنطقة.
والنفوذ الأميركي شيء مسلم به، وهناك العديد من المواقف العربية التي تؤكد ذلك، يقال إن أميركا اعترضت على إنشاء جسر بري بين السعودية ومصر، فرضخت مصر للضغوط، وأميركا أيضا اعترضت على مشروع زراعي تكاملي ضخم بين ليبيا ومصر والسودان، فرضخت مصر للضغوط. مواقف عدة كان النفوذ الأميركي عنصرا فاعلا فيها، ومنها المواقف من إيران، وحماس، وحزب الله.
لقد توهم النظام المصري السابق أن أميركا مفتاح الجنة، وبالغ في تكبير الشبح وصورها للشعب على أنها الحاكم الفعلي للعالم، لا طفل يولد إلا بأمرها، ولا زرع يزرع إلا بقرارها، ولا رئيس يعين إلا برضاها، أتذكر هنا مقولة أسامة سرايا رئيس تحرير "الأهرام" الأسبق في "تتر" برنامج "صباح الخير يا مصر" التي تجسد العجز والهوان عندما قال "أمريكا دي هيه إسرائيل".
كانت أميركا وإسرائيل أيضا "بعبعا" كبيرا يسيطر على النظام المصري السابق، الذي حاول أن ينقل هذا "البعبع" إلى عقول المصريين، لقد آمن النظام إيمانا مطلقا أن عملية التوريث التي كان يطمح إليها لن تتم إلا بموافقة أميركا، وضمنا إسرائيل، فحاول أن يضمن رضاهما، فكان قراره رهينا بالموقفين الأميركي والإسرائيلي، حتى لو نفي ذلك، وتشدق بحرية القرار المصري، وأن مصر لا تذعن للضغوط..
ولكن جاءت ثورة 25 يناير لتطيح بأسطورة الوهم، اللات والعزى، وتفرض واقعا جديدا الكلمة الفاصلة فيه هي كلمة الشعوب.
عدا فترة محددة من حكم جورج بوش الابن ـ الذي حاول فيها تسويق فكرة الديمقراطية ونظرية العالم الجديد، ثم صرف النظر عنها وقال "بلاها" عندما فوجئ بأن الديمقراطية ستأتي بأنظمة معادية لأميركا ـ كانت أميركا على الدوام أكبر نصير للأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، وكلنا نتذكر غزل الرئيس أوباما في الرئيس مبارك خلال زيارته الأخيرة لأميركا.
فماذا حدث إذن ؟ هل غيرت أميركا موقفها فجأة، هل استيقظ الضمير الأميركي عندما رأى الشعوب تثور ضد حكامها، أم أن الأمر لا يتعدى تغيير المواقف كما تقتضي لعبة السياسة؟.
إذا كان موقف أميركا السابق الداعم للأنظمة الدكتاتورية صحيحا، فإن فرحها المفاجيء بالثورات دليل على النفاق، وإذا غيرت أميركا بالفعل موقفها فجأة فستكون ناكرة لجميل أصدقائها القدامى، وفي الحالتين الموقفان يدفعاننا إلى الشك في موقفها الجديد الفرح والمبتهج بالثورات العربية.
عندما اندلعت الثورات العربية، ونجحت في تونس ثم مصر، وانتقلت الآن إلى ليبيا واليمن وسورية، وغيرها .. سيطر القلق على إسرائيل، لماذا؟ لأن النظام الدكتاتوري صمام أمام لإسرائيل، والواقع يؤكد ذلك، فقد كانت الأنظمة البائدة في مصر وتونس من أشد الداعمين لإسرائيل.
وعندما اندلعت الثورة في سورية زاد رعب إسرائيل، لأنها تعتبر النظام السوري نظاما مثاليا، حافظ على هدوء الحدود السورية الإسرائيلية 48 عاما، ولم يطلق رصاصة واحدة لتحرير الجولان.
أميركا قلقة وإسرائيل متوترة، لأنهما لا يعرفان الأنظمة الجديدة التي ستأتي في الدول العربية بعد الثورات، هل ستكون موالية لهما أم لا ..؟، هل ستقف على الحياد أم ستنحاز إلى المعسكر الآخر؟ ، هل يمكن ترويضها وابتزازها واستغلالها كالعادة على مدى 30 عاما؟ ، أم ستكون أنظمة حرة لا يمكن التأثير عليها؟.
أميركا قلقة وإسرائيل خائفة من نظام مصري جديد جاء بإرادة شعب مازال رافضا للتطبيع رغم مرور 30 عاما على معاهدة السلام، ومازال يعتبر إسرائيل عدوا رئيسيا.
الدول الحرة خطر على أميركا وإسرائيل، لأنها لن تخضع أو تبتز أو تهادن، ستطالب بحقوقها الكاملة. لذلك فإن الثورات العربية ليست في صالح العم سام.