تابعت بغضب المفاوضات الدائرة بين مصر وألمانيا حول طلب مصر استعادة رأس الملكة الجميلة نفرتيتي، والسبب العنجهية الألمانية، وأسلوب الحوار المتعالي الذي يمارسه مسؤولوها عند الحديث عن الموضوع، فقد رفض الألمان إعادة رأس جدتي نفرتيتي مدعين أن الدولة البروسية "حصلت عليه" بشكل قانوني منذ قرن، تبعا لنظام القسمة الغبي، الذي أسميه "قسمة الحرامية"، بينما تؤكد الوثائق المصرية أن التمثال تمت سرقته وتهريبه بوثائق مزورة من مصر بواسطة عالم آثار ألماني عام 1913.
شعرت بالمهانة عندما قلص المصريون طلبهم من "الاستعادة الكاملة" إلى "الإعارة" فقط لفترة زمنية محددة، والغريب أن الذي يرى "الجليطة" الألمانية ولا يعرف الأمر، سيظن أن السيدة "نفرتيتي" سليلة الحسب والنسب ألمانية، والمصريون هم الذين يريدون الاستيلاء عليها.
وعلى النقيض أسعدني الأسلوب الذي اتبعته مصر لاستعادة قطع أثرية مصرية نادرة كانت تحتفظ بها إدارة متحف اللوفر في باريس، حيث هددت مصر بتعليق التعاون مع "اللوفر" وجميع بعثاته إذا لم تبادر فرنسا برد القطع المسروقة.
في الموقف الأول كان الموقف المصري متخاذلا ضعيفا أمام خصم سارق ظالم يفتقد اللياقة والذوق، وفي الموقف الثاني أظهرت مصر العين الحمراء، فحصلت على حقها، واستعادت قطعها الأثرية المسروقة.
لا أقلل من رجاحة الموقف الفرنسي، وحرص الفرنسيين على إعادة الحق لأصحابه، وحرصهم أيضا على علاقاتهم مع مصر، ذلك الحرص الذي ربما مرده حرص فرنسا على دور مصر في الاتحاد من أجل المتوسط، ولكني لا أنكر أيضا أن ثبات الموقف المصري كان له دور في استعادة القطع الأثرية الذي كان اللوفر يعتزم "التطنيش" عليها.
في لحظة ما نكون بحاجة إلى استخدام "العين الحمراء"، فالطيبة والتسامح والدبلوماسية والحرص على العلاقات الأخوية معان جليلة، ولكنها لا تصلح في كل الأحوال، بل إن الاستمرار في اتباعها "عمّال على بطّال" يكون من باب السذاجة والعبط، لأن خصمك اللئيم سيظن أن هذا ضعف، أو عبط، فيتمادى في ظلمك، ونهب حقوقك.
و"العين الحمراء" تعني ببساطة أن أقف موقفا مع الصديق، وأقول له ضمنا بطريقة مؤدبة ..لا ..، توقف هذا يتعارض مع مبادئي"، "هذا يؤثر على صداقتنا، ويضعها على المحك" "لا تتماد في الظلم، لأنني لن أقبل ذلك"، بذلك سينتبه الخصم ويعلم أن أدبك ليس ضعفا، وأن كياستك ليست خوفا، وأن للصبر ـ كما تقول أم كلثوم ـ "حدود".
أنتقد أحيانا الدبلوماسية المصرية، رغم تاريخها المشرف، والسبب أنها تكون في بعض الأحيان "دبلوماسية المشي جنب الحيط"، وفيها يكون دور السفير أو القنصل في الدولة التي يعمل فيها يقتصر على حماية العلاقات بين البلدين، وعدم بروز ما يعكر الأجواء، بغض النظر عن الثمن الذي سيدفع مقابل ذلك، وبغض النظر أن حقوقا للمصريين ستضيع.
العمل القنصلي الذي أفهمه يجب أن يكون منصبَّا في الدرجة الأولى على حماية حقوق أبناء الوطن في الخارج، ورعايتهم، ودعمهم، وإزالة العقبات أمامهم، وتقديم كافة الخدمات الثقافية والاجتماعية والقنصلية لهم.
ولكن الكثير من القناصل للأسف يكونون مبرمجين على المشي بجوار الحائط، يتحدثون بحذر ويتصرفون بخوف، إذا ظهرت مشكلة لا يكون شاغلهم الأول حلها، وإنما يكون همهم الأول كيفية القضاء عليها أو إخفائها، حتى تكون الصورة دائما زاهية، والعلاقات بين البلدين "على ما يرام".
وتكون نتيجة ذلك غالبا المزيد من ضياع الحقوق، والمزيد من الضعف، والهوان، والتضاؤل أمام عالم لا يحترم الضعيف. ولعل الدليل على ذلك موقف العرب مع إسرائيل التي لم تر منا على مدى السبع والثلاثين سنة الأخيرة أي عيون، لأن رؤوسنا مدفونة ي الرمال.
الدبلوماسية الحقيقية تقتضي أن أدافع عن حقوق مواطني لدى الدولة التي أمثلها بالحق والقانون والطرق الدبلوماسية، ولتحقيق ذلك أناقش الطرف الآخر، وأعترض، حتى لو زعقنا واحمرت وجوهنا، وأن تكون كل الاحتمالات مفتوحة للحصول على هذه الحقوق، ومن بينها إظهار "العين الحمراء والخضراء" ، وإذا تمادى الطرف الآخر في ظلمه، فلنا الحق في العديد من الإجراءات التي تكفلها الدبلوماسية، أقلها إقرار مبدأ المعاملة بالمثل، وأعلاها قطع العلاقات.
الكثير من القناصل يؤثرون دائما السلامة، ويمشون على قشر البيض، ويطلبون دائما "حسن الختام"، ولا يهمهم أن تضيع حقوق مواطنيهم، أو أن تضيع سمعة الوطن الذي لم يستطع حتى حماية حقوق مواطنيه، ولا أدري هل هذه حالات فردية أم حالة عامة، ومنهج تتبعه الدبلوماسية المصرية، ولكن الأكيد والواضح لدي أن الكثير من المصريين لا يلجؤون إلى قناصلهم عند الحاجة لعدم ثقتهم في أنهم سيجدون الدعم والمؤازرة، وهذه الدبلوماسية، وهذه الطيبة الزائدة هي التي جعلت الأزعر والبلطجي وابن الحرام يتبجحون مع مصر، ويتطاولون عليها ويطاردون أبناءها بالسنج والمطاوي.
وحتى أكون منصفا تنكسر هذه الصورة القاتمة، ويبدو في الأفق ضوء صغير، فنسمع عن موقف ما يعيد لنا الأمل في الحل، ومن هذه المواقف إقرار مصر مؤخرا لمبدأ التعامل بالمثل، وإعادتها عشرات الدبلوماسيين الأوروبيين إلى بلادهم من المطار، بسبب إلزام أوروبا الدبلوماسيين المصريين بالحصول على تأشيرة لدخولها، ولا يمر أسبوع واحد إلا ونسمع عن إعادة دبلوماسي أوروبي إلى بلاده من مطار القاهرة، لأنه لا يحمل تأشيرة دخول مسبقة.
"العين الحمراء" تصرف اجتماعي سليم يجب أن نستخدمه في حال ظلم الآخر أو استبدّ أو تجبّر، ويمكننا اعتباره أسلوبا تربويا يقوّم الأخ وينبّه الصديق، شيء يشبه "تمليص" الآذان لأخ أو شقيق يحتاج إلى تقويم، سلوك يصحح ويقوم ويحمي علاقتنا المشتركة.