أحب المساجد، خاصة المساجد البعيدة، وأجمل الأوقات عندما أسافر إلى بلد ما، وأدخل مسجدا جديدا، لا يعرفني فيه أحد ، ولا أعرف فيه أحدا ، أتوضأ، وأحني جبهتي للخالق العظيم، وأصلى بعزلة جميلة.
بالطبع كل المساجد جميلة، لأنها بيوت الله ، محفوفة دائما بصلواته وتكبيراته ونفحاته، ونسائمه الوجدانية، ومع أن الطرق إلى المساجد مليئة بالحسنات، فإن المسجد البعيد يوفر فرصة للتأمل في خلق الله، فتظهر الصورة واضحة جلية مجردة عن الغيوم، في المسجد البعيد تكون مجردا من الاسم واللقب والمهنة وضغوط الحياة، وتصبح صفتك الوحيدة عبد من عباد الله يصلي على أرض الله ، مع عباد الله .
هناك يمكنك لأول مرة أن تفكر في الخلق والوجود، والحياة والأحلام والواقع ، وما وراء النهر، هناك ـ بعد أن تتخلص من تجاذبات العمل والحياة ـ تتمكن من النظر إلى الأشياء بتجرد وموضوعية وشفافية وواقعية منقطعة النظير.
الأمر يشبه الخلوة التي لجأ إليها بعض الأنبياء للمناجاه مع الخالق، والعزلة التي يمارسها المتصوفة طلبا للزهد، والرحلة التي يبحث فيها الوجودي عن اليقين، والاعتكاف الذي يلجأ إليها البعض في رمضان للعبادة والصلوات، ورياضة اليوجا التي تتيح للبعض فرصة فريدة رائعة للصفاء والتأمل.
الأمرـ بالتعبير التقني ـ أشبه بعملية Restart للجسم ، فالمرء بحاجة كل فترة إلى التوقف عن الركض، ليجمع قواه للركض من جديد، والدماغ بحاجة إلى إستراحة، يتوقف فيها قليلا عن العمل، ليجدد أفكاره، والمسجد البعيد فرصة مثالية لتحقيق ذلك.
بعض المساجد فخمة واسعة، استخدمت في إنشائها فنون العمارة، من زخارف وقباب وأشكال فنية مبدعة ، وأخرى صغيرة بسيطة مسقوفة بجريد النخل، والبعض أصغر، وهي ما يطلق عليه "زوايا"، بعض المساجد حديث يضج برائحة الطلاء والموكيت وتبرعات المحسنين، والبعض الآخر قديم تشتم فيه رائحة التاريخ، وتتلمس في جنباته خطى الأولين الذين توافدوا عليه على مر العصور وصلوا في جنباته وزواياه.
أما المصلين فتختلف جنسياتهم وألسنتهم وأشكالهم وأزيائهم وفئاتهم الاجتماعية، ولكن الغريب أن كل هؤلاء ـ رغم الاختلافات الكثيرة ـ جمعهم شيء واحد وهو الصلاة.
المسجد نسخة مقربة للحياة ، حيث الغني والفقير، الأبيض والأسود ، والكبير والصغير، المواطن والمقيم، والمجنس والبدون، اليميني واليساري ، الموالي والمعارض ، لكنهم جميعا تجردوا من صفاتهم، ووقفوا في صفوف متساوية ليعبدوا الله ، لذلك يمكن القول أنه نموذج مثالي يجب أن يعمم ويكون أسلوبا للحياة.
اللهم اجعلنا من أهل المساجد القريبة والبعيدة، الفخمة والبسيطة ، والصغيرة والكبيرة ، والزوايا والبسطات التي تفرش في الشوارع لمواكبة ازدياد المصلين، وأن تكون قلوبنا معلقة بالمساجد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".