يحتكر البعض السياسة، ويعتبرها مهنة الصفوة، لا يحق للناس العاديين ممارستها، كالأسرار الكهنوتية المحفوظة، ليس من حق العامة الاطلاع عليها أو تداولها، ويقومون بترهيب الآخرين وتحذيرهم من "السياسة"، ويضعون عليها لافتة "ممنوع الاقتراب"، وكل من يقترب ويشبّ حتى ولو للاستطلاع سيكون في خبر كان.
في الماضي كان هناك حظر اجتماعي على الحديث في السياسة، وكان من يتهور ويتحدث بها تخطفه الأجهزة المسؤولة، ويخضع للاستجواب الطويل لمعرفة ميوله، هل هو مع الحكومة، أم ضدها؟ ومن الذي سمم أفكاره، وجعله يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة، ويتحدث في السياسة، وكانت الشخصيات العامة عند التحاور معها تنفي بشدة أنها تتكلم في السياسة، بينما يدعي البعض الآخر جهله بها، وكأنها العار.
السياسة ممنوعة في الجامعات، والنقابات، والهيئات، والمدارس، فأين بربكم يمارس الإنسان السياسة، وكيف يفش المواطن المطحون خلقه من قلة الراتب، وغلاء المعيشة، والبطالة ومشاكل الحياة؟ .. هناك خياران لا ثالث لهما، وهما أن ينضم للأحزاب، أو يمارس السياسة في بيته.
الخيار الأول ليس مفضلا لدى الكثيرين، لوجود حس شعبي عام هو أن الأحزاب كيانات شكلية ليس لها جذور في الشارع، وهي في بعض الأحيان معارضة مستأنسة تتحرك وفقا للحبل المشدود، يتم إرخاء الحبل حينا، ويتم شده أحيانا أخرى، المعارضة قدرها الدائم المعارضة، أما الحزب الحاكم فقدره الدائم الحكم، وقد تسلل هذا اليأس لأعضاء الأحزاب أنفسهم، وشعروا أنهم سيظلون يعارضون على طول، وأن تداول السلطة ضرب من الخيال.
أما الخيار الثاني هو أن يمارس المواطن السياسة في بيته، ففي البيت أيضا سياسة، وهناك ميزانية المنزل الشهرية، وهناك حكومة وهي الزوجة، وهناك معارضة وهم الأبناء، وهناك أخذ ورد ومعارك يومية. المهم ألا نسمع صوتك تتحدث في السياسة خارج عتبة البيت.
ولا أدري لماذا هذا الحظر الكبير على الممارسة السياسية، وقصرها على السياسيين فقط، ومنع ممارستها في الجامعات والأماكن العامة؟ رغم أن السياسة تدخل في كل شؤون المواطن، تدخل في الدراسة، والتعليم، والعمل.؟ ، رغيف الخبز سياسة، نظافة الشوارع سياسة، العمل سياسة، حتى الزواج تتحكم فيه السياسة.
المواطن هو العنصر الأساسي في العملية السياسية، وهو أحد أضلاع مثلث، ركناه الأخريان، الحكومة والمعارضة، فلو ألغينا المواطن مثلا، ماذا سيفعل السياسيون؟ من المؤكد أنهم سيجلسون في بيوتهم.
ومن المسميات المشبوهة أيضا "المعارضة"، فهي تعني ـ في الصورة الذهنية ـ أن المعارض رافض وناقم ومعاد لسياسات الدولة، وهذا بالطبع مفهوم خاطئ، فالمعارضة كلمة يندرج تحتها عدد من المعاني مثل المتابعة والنقد والإصلاح، وكلها معان حميدة ومطلوبة حتى يتقدم الوطن، ويعيش الشعب حياة أفضل، ولو ألغينا النقد لبارت السلع، وانهارت الخدمات، وتخبط البلد، والحزب الحاكم نفسه بحاجة إلى هذا النوع من النقد لكي يصحح تجاربه، وكل ذلك في صالح الوطن.
ولكن هناك من يريد تشويه صورة المعارضة، ويتعامل معها خارج سياق المجتمع كجانب مظلم مدان حتى يثبت العكس. المعارضة الحقيقية تلك التي يمارسها كل الشعب بجميع طوائفه، المنتمين للأحزاب من ناحية، والمنتمين للحزب الحاكم من ناحية ثانية. وغير المنتمين لأي جهة من ناحية ثالثة، المعارضة حس إنساني عام يعني أن الإنسان يتعرف على أخطائه، ويصحح تجاربه لكي يحقق حياة أفضل.
وإذا اعتمدنا هذا تعريفا للسياسة فسنكتشف أن كل المواطنين سياسيون، وإذا اعتمدنا هذا تعريفا للمعارضة فسنكتشف أن كل الناس معارضون. ولو لم يكونوا كذلك، لأصبح في الأمر خلل.
الشاب الذي لا يجد طريقه لممارسة العمل السياسي في الجامعة أو العمل أو الهيئات المختلفة أو الشارع، سيقع تحت ضغط نفسي، وقد يقوده ذلك إلى التطرف أو الخروج على القانون، لذلك من الأجدى وجود مسارات واضحة لكي يمارس جميع فئات الشعب العمل السياسي، وذلك من خلال الجمعيات الأهلية، ومنظمات المجتمع المدني، والجامعات، والمدارس، والهيئات، والتجمعات الفكرية والسياسية، على أن توضع الضمانات الموضوعية العادلة لعدم تحول هذه الممارسات إلى فوضى.
أقترح إقرار منهج للتوعية السياسية يدرس في دور العلم كالمدارس والجامعات يهدف إلى توعية المواطن بحقوقه السياسية، وكيفية المشاركة في العمل العام، وتحديد مجالات ذلك من خلال المشاركة في الانتخابات سواء عن طريق الترشح أو التصويت، وإبداء الرأي والنقد، والاقتراحات، والتظاهر السلمي.
ويمكن في إطار ذلك إنشاء برلمان شعبي مواز للبرلمان الرسمي يتكون من كافة فئات الشعب، المدرسين، والعمال، والباعة الجائلين، والسائقين، والطلاب، وربات البيوت، والأطفال، يتم من خلاله استقصاء آراء الناس ومشكلاتهم وشكاواهم واقتراحاتهم، وتقوم الشرطة بحق حماية الشعب في هذه الممارسة، وليس العكس، وتصبح السياسة بذلك للجميع.
ويتم ذلك كله من خلال مسار مؤمن ومحمي، بحيث تصل الممارسة الشعبية السياسية بما تتضمنه من أفكار وانتقادات واقتراحات ـ دون وسيط ـ إلى أصحاب القرار، سواء أكان ذلك الحكومة أو رئيس الدولة.
إتاحة الفرصة لجميع فئات الشعب لممارسة العمل السياسي سيثري هذا العمل، ويمنحه الكثير من التفاعل والمصداقية، وسوف ينعكس على القرارات التي تتخذها الحكومة، وفي ذلك مصلحة عليا للوطن.