يقول المثل المصري "إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه" وهو يدعو لتقديس الوظيفة الحكومية، ليس ذلك فقط، ولكن إلى التذلل للتمسك بها، ورغم أن للمثل قصة، إلا أن المعنى الذي استقر بعد عشرات السنين هو النصح بالتمسك بالوظيفة.
والسبب في بطن القائل أن الوظيفة الحكومية توفر الراحة والراتب الثابت، ولا أدرى لو عاش السيد القائل في زمننا هذا ورأى الموظف الحكومي المطحون الذي يذهب إلى عمله متشعبطا في الأتوبيسات، يقضي يومه في بيئة كارثية من الزحام والضجيج والمكائد والدسائس، وكل طموحه أن يعود إلى أسرته حاملا بطيخة ، ماذا سيقول ..؟، هل سيظل متمسكا بالوظيفة الحكومية ؟
المثل ـ سواء اتفقنا معه أم لا ـ يعكس ظاهرة اجتماعية مؤلمة قيدت العقل المصري عدة قرون ، ومنعته من الابداع والابتكار ، وجعلته مجرد أجير في منظومة إدارية عقيمة يملكها الإقطاعيون.
قد نتفهم عقلية المواطن البسيط الذي يدور في رحى الحياة من أجل لقمة العيش، ويحلم بالصحة والستر وتزويج البنات، ويجد في الوظيفة ـ أي وظيفة ـ وسيلة للطمأنة، ولكن هذه النظرة سودت الواقع ورهنت المستقبل ، وحكمت على طبقة اجتماعية كاملة بالموت البطيء .
عاني العربي من ركام من العادات والتقاليد والأمثال المدمرة التي قيدت حريته وقدراته، وتركته عاجزا متخلفا عن الركب، ومن ذلك هذا المثل المذل الذي يؤسس للعبودية الوظيفية، ويزدري العمل الحر .
حدث ذلك رغم أن "تسعة أعشار الرزق في التجارة" وكل تجارب الدنيا التي تثبت أن باب النجاح لم يكون يوما الوظيفة، ولكنه كان مقترنا دائما بالتجارة والابداع والابتكار والعمل الحر .
معظم الناجحين في العالم لم يعملوا في وظائف حكومية، ولكنهم فكروا وأبدعوا ، وأنشأوا المشاريع الصغيرة التي كبرت، ونجحت، وحققت المليارات.
لذلك كله أتحفظ على الوظيفة، وأرفض أن يعمل الانسان أجيرا عند أحد .. أي أحد مقابل راتب شهري ، فالوظيفة عقد إذعان خطير، يرهن الموظف من خلاله وقته "وقت الدوام"، ورأيه الخاص "لا مكان للرأى الشخصي في العمل" وإبداعه "لا مجال للمهارات والإبداعات الشخصية في العمل"، وإرادته "تسلب من الموظف إرادته في وقت العمل، فلا يفعل إلا ما يطلب منه"، وأحلامه، وطموحاته ، وبالتالي مستقبله مقابل الراتب الشهري.
يجب تغيير القانون الإداري العربي العقيم ، بالتقليل من الوظائف ، وتوسيع مساحة العمل الحر . بذلك نحرر الفكر العربي من سجنه العتيق، ليحلق في سموات الإبداع .
لن يمكننا تغيير المشهد بسهولة ، ولكن يمكن ذلك على المدى الطويل، ولنبدأ بشيئين ، الأول : التقليل من صيغة العامل وصاحب العمل، وفتح الباب على مصراعية للمشاريع الفردية والجماعية، وتدريب النشء على العمل الحر، والثاني إشراك العمال في الملكية ، بحصولهم على نسب من أسهم الشركة التي يعملون بها ، وبذلك ينعدل الميزان، ويعمل في ملكه.
العمل عند الغير علاقة مشوهة تتسم بالتمييز ، والتسلط ، والطبقية، والحل إحياء قيمة العمل الحر، وإشراك العمال في الملكية .
تاريخ الإضافة: 2018-04-24تعليق: 0عدد المشاهدات :1551