العرب فاشلون في التسويق، قد ينتجون أشياء عظيمة، ولكنها تظل والعدم سواء بسبب العجز عن تقديمها بالشكل المشوق الجذاب ، كالبائع الذي يملك سلعة قيمة ، ولكنه لا يستطيع ترويجها وتسويقها فتعاني من الكساد والبوار .
التسويق في سلو بلدنا فهلوة، وحذلقة، وخفة يد، والمسوق الجيد الذي يبيع لك الترماي، حاوي يحول الشال الحرير إلى أرانب، والتسويق لدينا ليس علما يدرس ويعلم ويطبق كما في بلاد الله خلق الله، ولكنه باب كبير للنصب والإحتيال.
إذا لم تصدق لاحظ معي الإعلانات التجارية، وكيف يتبارى مندوبو الإعلانات في بيع الوهم، المهم الحصول على الإعلان، لا يهم لو اكتشف المعلن أنه تم الضحك عليه ، وأن القفص مليء بالثمرات المعطوبة، لا يهم أن يكون المعلن الأول والأخير . المهم تحقيق التارجت الضخم الذي تلزم المؤسسات المندوب بتحقيقه، لذلك يعلن الكثيرون مرة ولا يعلنون ثانية أبدا .
حتى عندما أفقنا وعلمنا أن التسويق دراسة وعلم اقتصادي ظلت الفكرة الخاطئة مسيطرة، وهي أن تسويق السلعة يعني بيعها بأي ثمن . حتى لو كان الثمن غال كالسمعة التجارية.
عملت في إحدى السنوات في الخليج مع مندوب إعلانات اسمه شحاتة الشبعان ، كان الرجل قرويا بسيطا من كفر الشيخ، وكانت هيئته عادية ككل البسطاء في القرى المصرية، إذا رأيته لأول وهلة ستقول أنه لن يجلب إعلانا واحدا ، ولكن الواقع كان مختلفا ، فقد كان شحاتة مندوب إعلان خطير ، يسافر في مهمة إعلانية لمدة أسبوع ، ويأتي محملا بالشيكات والمبالغ النقدية، وكثيرا ما كنت أضحك عندما يتحدث بحزن وهوه صعبان عليه العميل الذي منحه الاعلان رغم بساطة تجارته.
كانت بساطة الشبعان سر نجاحه ، حيث كان العملاء يجدون في هذه الهيئة البسيطة، ولهجته القروية ما يبحثون عنه وهو "الصدق، فكانوا يوقعون معه العقود الاعلانية ويقدمون له أنصاف قيم الإعلان مقدما عن طيب خاطر . البسطاء أكثر صدقا في التسويق، ولعل الدليل على ذلك البائع المتجول البسيط الذي يروج بضاعته بالأغاني العفوية، وبعباراته البسيطة .
ولكن البعض يرى عكس ذلك، البعض يرى أن التسويق استلطاف، والمسوق يجب أن يدخل قلب العميل .. كيف؟ لا أدري.. ، في إحدى السنوات رأيت رئيس تحرير يخاطب مندوبي الاعلانات لديه ويقول أن "العميل يجب أن يعشق مندوب الاعلان" .. هكذا قال بالحرف الواحد .. وهو رأى لا يعبر عن الانحراف، بقدر ما يعكس الجهل بماهية التسويق الحقيقية، وكانت النتيجة أن أصبحت الإعلانات سيئة السمعة ومندوب الاعلانات مشروع نصاب.
ولكن مع قدوم الاعلام الجديد انفضح التسويق العربي، وبات لا يجد حتى ورقة التوت التي يداري بها سوأته، فقدمت السوشيال ميديا صورة مغايرة للتسويق أكثر أمانة، فقد ربطت بين الاعلان وفائدة العميل ، ومن أمثلة ذلك اعتمادها النقرات كأساس للمحاسبة، والإعلان أولا ثم الحساب ثانيا ، وهذه مباديء لا يستطيع التسويق العربي الذي أدمن ثنائية التسويق والخداع على مجاراتها .
في بداية حياتي العملية قدمت لوظيفة في مؤسسة دولية كبرى، نائب الرئيس مغربي الجنسية، قال لي بعد المقابلة "أنت تجيد تسويق نفسك"، ومن يومها أدركت أن التسويق ليس فقط مهم للأعمال التجارية ، ولكن أيضا للشخصية، وبدأ اهتمامي الفعلي بالتسويق كعلم ومنهج.
لو كان الأمر بيدي لأمرت أن يكون التسويق مادة إلزامية "نجاح وسقوط" في جميع الصفوف الدراسية، لأن من لا يتقن التسويق ليس فقط تاجر فاشل لديه بضاعة جيدة وجهله بالتسويق قاده إلى الإفلاس، ولكنه سيفشل أيضا في جميع مجالات الحياة.