أنا قديم في الصحافة، من أيام جهاز البرومايد الضخم الذي كنا نصف عليه المواد الصحفية، كنا نحدد الأفناط "الخطوط" بوحدة اسمها البيكا، وعندما تخرج "السُّلَخ" ـ بضم السين وفتح اللام ـ بطيئة متثائبة من الجهاز يتم لصقها على الماكيت حسب رؤية المخرج الفني . أتذكر المخرج الباكستاني القادم من مكة والذي تعلمت منه التبنيط والإخراج.
تطور الأمر ليظهر بعد ذلك الكمبيوتر ، فكان برنامج "الناشر الصحفي" طفرة في مجال الإخراج الفني ، وأخيرا جاء الماكنتوش، هل تتذكرون قرص النسخ الذي كان اسمه ZIB ، والذي كان بحجم الكف، والذي تطور بعد ذلك ليصبح الديسك، والذي كان يطلق عليه اسم "فلوبي".
هل تتذكرون الإير برش، وهو جهاز صغير يشبه جهاز طلاء السيارات كان يملأ باللون، وكان المخرج الفني في وكالة الندوة ينفخ في هذه الأداة ليوزع الألوان على الماكيت الورقي، وهو الوضع الذي تطور بعد ذلك بسنوات بظهور معجزة الفوتوشوب.
عملت في مواقع عدة ، وكان حظي أن بدأت في موقع قيادي ، وحتى أكون دقيقا كنت أجمع بين الإثنين الموقع الصغير والكبير ، فقد عملت في مجلة محررا صحفيا ، وترك لي صاحبها الصحفي الكبير الحبل على الغارب كما يقولون ، فكنت المحرر والمخرج الصحفي وسكرتير التحرير ورئيس التحرير.
كنت أعد المواد والتحقيقات، وأصوغها، وألتقط الصور، وإذا غاب المخرج أسهر وحدي بالفانيله على جهاز الكمبيوتر، أعمل Scan للصور التي كانت تقدر بالمئات ، وأخرج الصفحات التي كانت تقترب من المئة ، وفي الصباح تكون صفحات المجلة جاهزة، لتبدأ بعد ذلك مرحلة فصل الألوان "عمل الأفلام" التي كانت تتم في مكتب عادل عبدالفتاح.
كنت أمشي في عز الحر حاملا حقيبتي عدة كيلومترات من مطبعة دار العلم في شارع الصحافة وحتى مكتب فصل الألوان في حي الصفا، وكيف كنت أقود السيارة قبيل الفجر بسرعة لألحق مكتب الشحن في الخطوط السعودية، لأشحن الأفلام إلى بيروت حيث كانت المجلة تطبع هناك، ورغم تعبي إلا أني حصلت على أكبر كنز وهو الخبرة.
كنت في هذه المجلة المحرر والمخرج والمنسق والمسؤول ، أنا الذي يخاطب الجهات الصحفية والوكالات الإعلامية وأحيانا التوزيع، أصدر التكليفات وأقيم المكافآت، وكان صاحب المجلة يثق بي ، وكان يحذر الآخرين من الاقتراب مني ويقول لهم "أمير هو المجلة"، وعندما كنت أطلب منه رؤية العدد قبل إرساله للمطبعة ، كان يرفض ويقول لي "ارسل"، فيرى صاحب المجلة مجلته لأول مرة كالقاريء، لتبدأ بعد ذلك رحلتي في محرقة الصحف اليومية والتي ناهزت الربع قرن.
أتذكر العروض المغرية التي تلقيتها ، ومنها عرض من رجل أعمال كبير بإصدار مجلة أتولى رئاسة تحريرها وأن أدخل فيها شريكا بالثلث، ولا أدفع شيئا، وكيف كان يتصل بي من هاتف السيارة "أيام هواتف السيارات" ويلح علي بقبول العرض، وكيف كنت اعتذر بأدب.
أتذكر نجاحاتي الصحفية، وأيضا إحباطاتي وهزائمي، أتذكر الأيادي التي امتدت لي وشجعتني، ودفعتني للأمام، وصفقت لي بحب، وفي المقابل الأيادي الغادرة التي حاولت أن "تكعبلني" كما يقول التعبير المصري.
أتذكر رحلتي الجبلية الطويلة في الصحافة، والثمن الفادح الذي دفعته عن طيب خاطر من أجل التنوير والتثقيف والحرية، وأمسح جبهتي المعروقة بالتراب والدم، وأواصل العمل في المحرقة.