هل تذكرون السجين الذي قرر العودة إلى السجن بعد أن ضاقت به الحياة، ومصادر الرزق الشريف، فوجد أن حياته في السجن أفضل؟ .. بعض السجناء يحاولون البقاء في الحبس بعد انتهاء فترات محكومياتهم، وبدلا من أن يفرحوا باستنشاق نسيم الحرية، يُجَرون جرا إلى بوابة السجن للخروج، وكأنهم يساقون إلى النار، وتتزايد حالات الرغبة في البقاء في السجن، حتى إن أحدهم حاول ارتكاب جريمة لكي يعود إلى سجنه رسميا دون مجاملة من أحد.
نفس الأمر يحدث في بعض دور حماية الفتيات التي تشهد هذا النوع الغريب من التمسك بالسجن وقيوده على حياة الحرية وأفواهها المفترسة، الكثير من الفتيات المعنفات يفضلن البقاء في تلك الدور على الخروج، وتسليمهن لأهاليهن الذين أذاقوهن أشد ويلات العذاب.
وأحيانا يكون رفض السجين مغادرة السجن لأسباب طريفة، كهذا السجين الذي رفض إنهاء إجراءات خروجه حتى انتهاء مباريات المونديال، حيث كان يرغب في الاستفادة من المشاهدة المجانية لبطولة كأس العالم التي توفرها إدارة السجون للسجناء.
ما الذي يدفع المرء إلى الرغبة في السجن، يقول المثل "ما الذي أجبرك على المر .. اللي أمر منه"، فمن المؤكد أن مرارة أقسى من مرارة السجن دفعت هذا السجين إلى تفضيل غياهب الزنزانة، على نور الحرية.
هذه الحالة الغريبة والمؤلمة التي تدفع المرء إلى التمسك بالسجن تشير إلى اختلاط الأمور وانهيار القواعد، كما تشير بشكل أساسي إلى قسوة المجتمع الذي يقسو على أبنائه لدرجة أنهم يفضلون نار السجن على جنة الحرية.
ولكن مع استغرابنا واستنكارنا أحيانا لموقف هذا السجين المعتوه الذي فضل السجن على الحرية، فإننا نحترم قراره، وأيضا ذكاءه، لأنه درس الأمر، وحسب الخسائر والمكاسب في الداخل والخارج، وانتهى إلى أن مكاسبه في السجن أكثر من مكاسبه خارجه، وإذا استعملنا نفس القياس وطبقناه على كثير من شؤون الحياة، اكتشفنا النتائج المذهلة ..
مثلا إذا استخدمنا مقياس الحرية في العالم العربي، وقارنا بين وضع الشعوب العربية في ظل الاستعمار، ووضع الشعوب الآن، وحاولنا بأمانة تقييم الوضع السياسي، مع حساب المكاسب والخسائر. لاكتشفنا أن الحياة في ظل الاستعمار كانت أفضل من الحياة في ظل أنظمة الحكم الحالية.
هناك وجه سلبي مؤكد للاستعمار، وهو الهيمنة على مقدرات الشعوب، والتحكم في مواقفها والتنكيل بشعوبها، ولكن هناك وجه إيجابي تمثل في تطوير المجتمعات المستعمرة وإنهاضها، ولعل أحد الأدلة على ذلك التأثير الذي أحدثته الحملة الفرنسية على مصر، والتي أدخلت العديد من مظاهر النهضة كالاختراعات والأدوات الحديثة، والفنون، ووسائل الإعلام، وأحدثت في سنوات قليلة تطورا معرفيا ومدنيا ، ما لم يكن يحدث إلا عن طريق الاستعمار المتقدم.
بالطبع لا أحاول أن أشرعن الاستعمار، ولكن أحاول استخدام نفس مقياس المكاسب والخسائر الذي استعمله السجين الذي قرر العودة إلى السجن.
نقطة أخرى، التعبير الشائع يقول "العبرة بالنتائج"، وهو مقياس منفذ في علوم الإدارة، وهو يعني أن المعيار الحقيقي للنجاح هو النتيجة، لا يهمنا بهرجة البدايات والتنظيرات والدراسات، بقدر ما تهمنا النتيجة التي توصلنا إليها. هل نجح الأمر أم فشل؟.
وجريا على ذلك نسأل .. هل الأوضاع السياسية العربية الآن مرضية، وهل تتمتع الشعوب ـ التي خرجت على الاستعمار وقاومته لسنوات حتى حصلت على حريتها ـ بالحرية التي سعت إليها؟.
المتتبع للأوضاع السياسية في الدول العربية سيكتشف أنها أبعد ما تكون عن مقياس الحرية العالمي المعروف، وأن الحكم في أيدي عدد من الأفراد، والشعوب لا تملك من أمرها شيئا، فهل هذه النتيجة المرضية التي كان يطمح إليها الثوار الذين قاوموا الاستعمار، وبذلوا أرواحهم رخيصة من أجل الحرية؟.
معظم النظم العربية الحالية تفرض نفسها فرضا على الشعوب، إما بالتوارث، أو بالانتخابات الشكلية ذات الخيار الواحد، والتي تمدد للحاكم عبر استفتاءات شكلية تطرح خيار "لا" و"نعم"، أو بالانتخابات المزورة التي يفوز فيها الحزب الحاكم بالنسبة العربية الشهيرة وهي 99%.
هل هذا هو حكم الشعب الذي أراده الأجداد عندما خرجوا على المستعمرين؟ وحرروا أوطانهم بالحديد والنار والتضحيات؟، الواقع يؤكد أن الشعوب العربية استبدلت الاستعمار الأجنبي باستعمار محلي، ولكن يبقى الاستعمار استعمارا.
هل كان يدري عمر المختار الذي كان زعيم المقاومة الليبية ضد الاستعمار الفرنسي أن السنوات ستمر، وأن الحرية الحلم التي كان يحلم بها هو ورفاقه قد صارت إلى ما صار إليه الوضع بعد 42 عاما من حكم القذافي؟.
لو جاء المختار سيدرك أنه لم ينجح في إنهاء الاستعمار، وأن ما فعله هو استبدال المستعمر الأجنبي بالمستعمر المحلي، نفس الأمر ينطبق على معظم الدول العربية التي استبدلت الاستعمار الأجنبي باستعمار محلي، واستبدلت المشنقة بالمقصلة.
إذا طبقنا حكاية "المر واللي أمر منه"، اكتشفنا أن الحياة في ظل الاستعمار كانت أفضل، على الأقل أن الاستعمار لو استمر لجاءت لحظة وحصلت الشعوب العربية على حريتها أسوة بدول مستعمريها التي تتمتع الآن بأنظمة حكم ديمقراطية فريدة. على سبيل "من جاور السعيد يسعد"، أو على سبيل أن نظام المستعمرات سيكون بداهة نفس نظام الدول المستعمرة.
على الأقل لو استمر الاستعمار لكانت الأمم المستعمرة قد لحقت بمستعمريها، وتمتعت كما تمتعت هذه الدول في النهاية بالديمقراطية والرخاء الاقتصادي، وأصبحت هي الأخرى من العالم الأول.
فهمت الشعوب العربية الحرية فهما خاطئا، واعتقدوا أن الحرية تعني أن يكون من يحكمهم عربيا، لا يهم نظام الحكم، ولا تهم الطريقة التي جاء بها هذا النظام، نقبل القمع من عربي، ونرفضه من الأجنبي، لذلك احتفت الشعوب بثوراتها، ورفعت قائديها إلى مرتبة أولياء الله الصالحين، رغم أن هؤلاء الثوار كرسوا نظام الحكم الفردي ، وأعادوا القيد نفسه إلى معصم الشعب.
وكانت النتيجة التخلف السياسي الذي يعاني منه العالم العربي الآن، معظم الدول تطورت سياسيا، وتمكنت من تأسيس أنظمة ديمقراطية مثل تركيا وأوكرانيا ، حتى الدول الإفريقية بدأت في الإصلاح السياسي، ومن بينها ساحل العاج التي نظمت مؤخرا انتخابات رئاسية نزيهة فاز فيها مرشح المعارضة الحسن وتارا.
ما الذي أجبرك على المر؟. سؤال مشروع يكشف لنا الملابسات التي دفعت السجين لرفض مغادرة السجن، فنار المستعمر أفضل من جنة ذوي القربى، وقيد السجن أفضل من حرية المجتمع الظالم الذي مازال يقسو على أبنائه.