قال لي مسؤول كبير أنهم يقدمون مكافآت للصحفيين الذين يتعاونون معهم، ويركزون على أخبار الوزارة، فأجبته بحسم : أنا لا أقبل المكافآت، وكانت نهاية علاقتي بالوزارة ، وطلب مني مسؤول بشركة طبية دولية كبرى أن أكتب تقريرا مجاملا عن الدواء الجديد الذي طرحته الشركة، فرفضت، فأخبرته .. لا يمكن أن أجامل، فكانت نهاية علاقتي بالشركة .
لا أدعي البطولة ، أو أتباهي بالشرف ، ولكني أتذكر هذين الموقفين، وأنا أرى الكثيرين من أبناء المهنة ، يسقطون ، ويكتبون مقابل الرشاوى والهبات، ليت الأمر اقتصر على ذلك، ولكن البعض أصبح للأسف يتاجر بالمواقف والأوطان .
الكلمة أمانة ، والصحافة رسالة ، ولكنها في 2017 أصبحت سبوبة ، وسيلة للارتزاق ، وضاعت المهنية على أيدي أصحاب المصالح، والدخلاء المستعدين دائما لبيع أقلامهم لأي شخص.
وكانت النتيجة مؤسفة، فمعظم وسائل الإعلام العربية اليوم منحازة لدولة أو أيدلوجية أو جماعة أو رجل أعمال ، وغاب الإعلام المستقل الذي يقدم الحقيقة، ولا يخشى في الحق لومة لائم ، وأصبح البحث عن الحقيقة مثل البحث عن إبرة في كومة قش.
أعلم أن الاستقلال في الصحافة عملية نسبية ، فلابد من وجود الغرض والهدف الذي يحدده السيد الممول ، ولكن رغم ذلك كانت مساحة الغرض في وسائل الإعلام بالماضي قليلة جدا ، بالمقارنة بمساحة الاستقلالية ، حيث كان ملاك الصحف يحرصون رغم المآرب الخاصة كالربح والنفوذ وخلافه على مساحة لا بأس بها من المصداقية ، وهذه المساحة كانت كافية ومقنعة لتقديم صحافة ذات قدر من الاستقلالية والأمانة والتأثير .
ولكن الآن تضاءلت الاستقلالية ، وطغت المآرب الشخصية والسياسية، وبعد أن كانت الأغراض الشخصية تتوارى خجلا في الماضي، وتظل في دائرة التكهنات، ظهرت الآن صحف ووسائل إعلام تعلن عن أهدافها الخاصة بصفاقة وتبجح.
وأصبح القاريء العربي حائرا ، بين مئات الصحف ووسائل الإعلام المنحازة ، كل ينحاز لصاحبها، والممول لها ، والدولة التي تصدر عنها، .. كل يحاول فرض رأيه ووجهة نظره بغض النظر عن الحقيقة .
طلب مني فنان معروف أن أساعده في تقديم برنامج تلفزيوني في قناة عربية ، فاعتذرت له لعدم معرفة أحد في هذا المجال ، وبعد شهور فوجئت به يقدم برنامجا في فضائية في المعسكر الآخر .. فالمال إذن هو المحرك في القضية.
فكان الحل أمام الكثيرين اللجوء لوسائل الإعلام الأجنبية التي لازالت تحتفظ بقدر كبير من الاستقلالية والموضوعية، وحتى لو كان وراءها أهداف ، فالأهداف عادة تكون داخل دولها ومجتمعاتها ، أما نحن فلا أعتقد أن لهذه الوسائل مصلحة لدينا ، لذلك يمكنك الحصول من خلالها على قدر كبير من المصداقية، ولجأ البعض الآخر إلى مواقع التواصل التي يمكن من خلالها تبيان الصواب من الخطأ .
ورغم الصورة القاتمة "استقلال الصحافة" لا زال ممكنا، وهو موجود بالفعل في عدد من المشاريع الصحفية القليلة التي لا زال أصحابها يقبضون على الجمر، ويؤمنون برسالة الصحافة الحقيقية.
إنحياز الصحافة هزيمة جديدة في العالم العربي، تضاف إلى الهزائم الكبرى في مجالات السياسة والاقتصاد والحرية، لذلك آمل أن نتدارك جميعا الأمر ، وننزع القيود عن صاحبة الجلالة لتواصل رسالتها من أجل التنوير والتعليم والمكاشفة والحرية .