في السنوات الأخيرة ترددت كثيرا عبارة "الاستقواء بالخارج"، ظهرت العبارة في البداية كتهمة توجهها الحكومة لبعض الأفراد والعرقيات التي تستعين بدول خارجية لفرض قرارات معينة على الحكومة، وكانت في معظم الأحيان في الذاكرة الجمعية ذات معنى سلبي، وتهمة تتنافى مع معاني الوطنية، و"المجدعة" ومصلحة الوطن.
وجهت هذه التهمة في البداية لبعض الإخوة المسيحيين الذين نشطوا في الخارج لترويج فكرة اضطهاد الأقباط، وذلك لدى دوائر وشخصيات معينة في الكونجرس الأميركي، وطالبوا بضغط الكونجرس على الحكومة المصرية لتغيير هذا الوضع، ونظموا المظاهرات، ووصل الأمر إلى الطلب من الكونجرس قطع المعونة عن مصر، ولكن بعد فترة تراجعت هذه الفكرة بعد أن ثبتت هشاشتها، واتضح أنها غير مبنية على أسس واقعية.
اتهم بهذه التهمة أيضا المعارض المصري الدكتور أيمن نور رئيس حزب الغد سابقا، الذي تردد أنه أرسل رسائل لشخصيات دولية منها الرئيس الأميركي باراك أوباما بهدف الضغط على الحكومة المصرية للإفراج عنه، بعد سنوات قضاها في السجن لتنفيذ حكم بالسجن خمس سنوات بتهمة تزوير توكيلات حزب الغد، وقد فاتح مسؤولون أميركيون نظراءهم المصريين في ذلك أكثر من مرة، ورفضت الحكومة المصرية الخضوع لضغوط في هذا الموضوع، مؤكدين على استقلالية القرار المصري، وبعد فترة أفرج عن الدكتور نور فجأة ليعود ويمارس نشاطه السياسي.
اتهمت بنفس التهمة جمعيات وشخصيات عامة وإعلاميون، وبين الشد والجذب ظل "الاستقواء بالخارج" تهمة جاهزة توجه لكل من يدعو دولة أجنبية للضغط على الحكومة المصرية بشأن أي من القضايا الداخلية، كتعميم الحريات، ونشر الديموقراطية، ومنع التعذيب، ودعم حقوق الإنسان، والحفاظ على حقوق الأقليات.
والاستقواء مصدر للفعل "يستقوي"، ويقصد به الاستعانة بآخر لتحقيق هدف ما، والاستعانة هنا تعني استمداد القوة منه، وذلك يعني أن المستعين ليس لديه القوة الكافية لتحقيق هدفه، يتميز بعضلات ضعيفة لا تقوى على فرض رأيه، فيلجأ إلى آخر يمنحه القوة لتحقيق ذلك.
وبذلك لا غضاضة في فعل الاستقواء، فلكل إنسان الحق في أن يستمد القوة من آخر، خاصة أن الضعفاء كثيرون، وتبقى المشكلة في لفظة "بالخارج" ، حيث يرى البعض أن الاستعانة بالغريب على ابن الدار أمر يتنافى مع القواعد والأصول، جريا على المثل الشعبي الذي يقول "أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب".
وبغض النظر عن تأييد أو رفض عملية "الاستقواء بالخارج"، تعالوا معا نبحث عن دوافع المستقوِين بالخارج.
الناظر إلى الدوافع والأسباب التي دفعت هؤلاء الراغبين في الاستقواء بالخارج سيجد أنها كلها مطالب مشروعة، أو بمعنى آخر أمور ليست خارجة عن المألوف والطبيعي، وذلك بعد تجنيب الفئة المغرضة التي تدعي وجود اضطهاد للأقباط، فجميع هذه المطالب تدور حول الديموقراطية ومراقبة الانتخابات والإفراج عن السجناء وغيرها .. وكلها مطالب مشروعة، فلم يستقو أحد بالخارج للسرقة مثلا أو للحصول على مكاسب خاصة، أو لسبب خارج على القانون.
كل الأسباب أو الموضوعات التي قام المستقوون بالاستقواء بسببها مطالب أقل ما يمكن أن نصفها بأنها مطالب مشروعة، ولو وجد أصحابها الفرصة ـ كما يحدث في أي مجتمع ديموقراطي ـ للاستماع إليهم، ومناقشة هذه المطالب والأفكار لكان ذلك أفضل، ولكفاهم ذلك "ذل" الاستقواء بالخارج.
وبنظرة محايدة من أعلى لحكاية الاستقواء بالخارج، ومدى حرمتها من مشروعيتها، أعتقد أن الاستعانة بالآخر أمر لا غبار عليه، وفي التاريخ الإسلامي حالات متعددة استعان بها المسلمون بالمشركين لتحقيق أهدافهم، حدث ذلك في السلم والحرب على حد سواء، نقطة أخرى وهي أن العالم أصبح صغيرا جدا، والفضائيات، والتقنية، وتطور وسائل الاتصال، وتشابك المصالح والمصائر، جعل من الصعب أن نقول إن هناك داخلا وخارجا، وقد ثبت عمليا أن أي مصيبة تحدث هنا تمتد آثارها إلى هناك. والعكس صحيح. ولعل أحداث 11 سبتمبر 2000 نموذج واحد للدلالة على ذلك، والتي وقعت في مكان واحد ، وامتدت آثارها إلى العالم أجمع.
يجب ألا نعتبر الاستعانة بالخارج ـ للإقناع أو حتى الضغط على حكومة وطنية لتلبية طلب ما ـ خيانة، وإن كنا نكرر أنه لو وجد هذا الضعيف الحالم بالقوة مساحة للحوار في وطنه لما لجأ إلى الآخر، ويمكن اعتبار هذا الاستقواء، وساطة، أو طلب نجدة، كما يقول شخص "الحقوني"، في الخناقات الشعبية، فيتدخل شخص للحكم بين المتعاركين.
ولكن المشكلة الحقيقية تستفحل عندما يكون هذا الآخر الذي نحاول الاستقواء به ضعيفا، ففي كثير من الأحيان يتم طلب الديموقراطية من بلد دكتاتوري، والأمثلة هنا عديدة، ويتم طلب حقوق الإنسان من بلد ينتهك بنفسه حقوق الإنسان، ويصبح المعنى في الشطرة الشعرية التي تقول "كالمستجير من الرمضاء بالنارِ"، أو كما يقول المثل الشعبي "جبتك يا عبدالمعين تعيني .. لقيتك يا عبدالمعين تنعان". أو كما تقول الجملة المأثورة "فاقد الشيء لا يعطيه". من هنا تصبح عملية الاستقواء فاشلة.
فما هو الحل إذن؟ ، لا الحوار الداخلي بنافع، ولا الاستقواء الخارجي ثبتت جدواه، لذلك فإن الحل في رأيي هو الاستمرار في محاولة إقناع الأنظمة بأن العالم تغير، وأن الحوار والإقناع هما السبيلان الوحيدان لتسيير أمور البلد، و.. "طولة العمر تبلغ الأمل"، و"الصبر مفتاح الفرج"!.
"الاستقواء بالله" ظاهرة حميدة، لأنه وحده القادر على كل شيء، لذلك على الضعفاء في كل مكان أن يكشفوا رؤوسهم وفقا للتصرف الشعبي، والابتهال إلى الله ـ عز وجل ـ أن يمنحهم القوة لفرض الديموقراطية، وتداول السلطة، والعدالة الاجتماعية، والرقابة على الانتخابات، والحفاظ على حقوق الإنسان.