هناك أمثلة وعبارات مأثورة قديمة توارثتها الأجيال، جيلا بعد جيل، نرددها كشيء مسلم به، .. عناوين ضخمة "تخض"، عناوين لها رهبة، تقشعر لها الأبدان، إذا رددتها فقد أنهيت النقاش وحسمت الأمر، ولن يعترض عليك أحد، وتنغرس هذه الأقوال في الذاكرة الشعبية، وتتصدر المنازل في لوحات مائلة يعلوها التراب، لتصبح جزءا من اللحم والدم والاعتقاد .. وأحيانا الدين.
ولكنك إذا تأملت مرة هذا الكلام، ستكتشف أنه كلام فارغ، لا صلة بينه وبين الواقع. أو قل في أضعف الاحتمالات إنه مقولات لا يمكن تعميمها، بل العكس يجب تقييدها لتشمل حالات خاصة جدا.
"الاتحاد قوة" تعبير مأثور رددناه طويلا في حواراتنا ومدارسنا وأناشيدنا الوطنية، أتذكر في المدرسة الابتدائية كيف كان الكتاب المدرسي يصور حزمة من الأعواد يقابلها عود واحد، في دلالة على أن العصيّ إذا تجمعت قويت مما يصعب كسرها، عكس العود الواحد الذي يمكن كسره بأقل جهد.
صدعنا المنادون بالقومية العربية عقودا طويلة بشعار "الاتحاد قوة"، ولم نلمس شيئا على الأرض، حتى كره الناس الاتحاد ونفروا من القوة. لقد كانت الشعارات وسيلة تعويضية نفسية تريح الناس، ولكن لا أساس لها في الواقع. "الاتحاد قوة" شعار حماسي جميل، ولكن ببعض التأمل ستكتشف أنه كما قلت "كلام فارغ".
في هذا العصر لم يعد الاتحاد قوة، والدلائل على ذلك كثيرة جدا، فلدينا الجامعة العربية التي مر على إنشائها أكثر من 50 عاما، فلم تنتج "الجامعة" إلا الفرقة والشتات، كم من الحقوق العربية ضاع في ظل وجود الجامعة. لقد ضاعت فلسطين في وجود الجامعة، وفي ظل قممها التافهة التي تعقد المشكلات بدلا من حلها.
مجلس التعاون العربي الذي ضم العراق ومصر واليمن، والذي انفرط عقده بعد غزو العراق للكويت. لم يكن اتحادا بقدر ما كان وسيلة لربط مصر وتحييدها تمهيدا لقيام العراق بغزو الكويت.
"الاتحاد من أجل المتوسط" الذي دعت إليه فرنسا، وقدمته للعالم على أنه الأمل والتحدي، لم يكن الهدف منه إلا الجمع بين مصر وإسرائيل. في بعض الأحيان يتم إنشاء الاتحادات لمجرد تحقيق مكسب سياسي.
نفس الكلام ينطبق على اتحادات عالمية كثيرة مثل الأمم المتحدة، واتحادات أخرى عربية مثل مجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي.
الاتحادات لم تكن يوما مرادفة للقوة، حيث كانت دائما مرادفة للضعف والتراجع وخسارة المزيد من الحقوق العربية. لقد غير العرب مدلولات الحكم والأمثال ، فصار "الاتحاد ضعفا وعنصرية ومذلة ومهانة".
الاتحاد في بعض الأحيان يعني الضعف، حتى بالتصوير الشعبي فالفرد عند الخطر يمكن أن يتصرف، أما الجماعة فمن الممكن أن "تحتاس" وترتبك وتسهل مهاجمتها، قصير القامة ضئيل الحجم يكون في بعض الأحيان أفضل في العراك والكر والفر من الشخص البدين الذي يتحرك بصعوبة، الفرد في بعض الأحيان يكون قادرا على الحسم، عندما تريد أن تضيع قضية ما شكل لمناقشتها لجنة، الجماعة تقوم في بعض الأحيان بتشتيت القضية وتفتيتها، فلكل شخص رأي، وكل يتشبث برأيه ومستعد للشجار للدفاع عنه.
منذ سنوات انطلقت شائعة حول عزم المسيحيين التجمع في الصعيد لإنشاء دولة قبطية، ونفى البابا شنودة الشائعة، وقال في معرض ذلك إن تجمع أي فئة في مكان واحد يسهل على من يريد مهاجمتها وتصفيتها مهمته. وهو كلام سليم .. فالجماعة تضر في بعض الأحيان ، أما الانتشار فهو قوة.
الاتحاد ليس دائما علامة على القوة، فالجماعة فضلا عن أنه يسهل للأعداء استهدافها وتصفيتها بعملية واحدة ، تستفز الآخرين.. الجماعة أيا كان لونها أو شكلها أو توجهاتها السياسية عمل عنصري ، يستفز الآخرين الذين يضطرون في المقابل إلى تكوين جماعات مناهضة للحفاظ على حقوقهم.
إذا أسس الشرفاء اتحادا، سيقابله بالطبع اتحاد للصوص، .. وهكذا يتحول المجتمع إلى جماعات كالجمعيات التعاونية، كل جماعة تعمل لمصلحتها فقط، ويتحول العالم إلى عدد من الاتحادات .. كل اتحاد ينكفئ على ذاته ويتعصب لأعضائه، فتنتج لنا في النهاية كيانات متعصبة مختلفة الاتجاهات متعددة العداوات.
الاتحاد ضعف عندما تكون الجماعة وسيلة لتقويض حرية الرأي ـ وليس حمايتها ـ حيث يفرض البعض آراءهم، كما يحدث على سبيل المثال في الجامعة العربية التي تشترط خروج القرارات بالإجماع، وهو ما يعرقل القرار ويمنعه في كثير من الأحيان، كما حدث بالنسبة لثورة سورية، حيث أدى تضارب الآراء إلى عدم صدور قرار يدين ما يحدث هناك من انتهاكات ومذابح حتى الآن.
"الاتحاد قوة" بشرط أن ينضم القوي إلى القوي، ولكن أن ينضم القوي إلى الضعيف، فهذا خطأ. لأن القوي سيصبح ضعيفا، لأنه حمل على كتفه كائنا إضافيا ضعيفا، وليس من المتصور في المقابل أن يحمل الضعيف القوي، الاتحاد قوة بشرط أن يكون خطوة لوحدة العالم الكبرى.
يقول المثل الشعبي "من جاور السعيد يسعد"، ولكن مع احترامي للمثل يمكن أن تتسبب هذه الجيرة ـ بصورة عكسية ـ في شقاء السعيد، ويقول المثل المقابل "اتلم المتعوس على خايب الرجا"، وهناك مثل أكثر طرافة يقول "المتعوس متعوس ولو علقوا في رقبته فانوس"، في بعض الأحيان يتحد التعيس والتعيس، فتكون النتيجة الحتمية هي "التعاسة".
الاتحاد يكون في بعض الأحيان حركة عنصرية تؤسس على أساس عرقي أو لغوي، مثل "النادي النوبي" و"منظمة الدول الفرانكفونية"، الاتحاد يكون في بعض الأحيان وسيلة للسيطرة، والابتزاز والاستغلال، والظلم كما يحدث في الأمم المتحدة عندما تمنح القوى الكبرى حق "الفيتو" مما يمكنهم من الاعتراض على أي قرار حتى لو كان صائبا.
في بعض الأحيان يكون الاتحاد وسيلة للحرب النفسية، على طريقة "وناسبنا الحكومة". في بعض الأحيان يكون الاتحاد كيانا كرتونيا مظهريا يضم أشخاصا منتفخين، إذا قلت لهم "بخ" سيركض أعضاؤه فورا.
العرب مازالوا يتمسكون بالشكليات، يتحدون في العلن، ويعادون بعضهم بعضا في السر، يتشدقون بشعارات الإخاء والإيثار و"المصير المشترك"، وعندما تميل السفينة، يقفز كل منهم نافدا بجلده ـ بسرعة ـ إلى الماء.