ما معنى أن يُحكم على الشخص بالإقامة الجبرية؟ .. ما معنى أن تحدد إقامته في منزله أو شقته؟ وما هو المبرر القانوني لهذا التصرف، الذي يشبه تحديد إقامة العصفور في شجرة أو حتى حديقة، بحيث لا يمكنه مغادرتها أبدا، ليس ذلك فقط، بل ومنعه من الغناء، إنه أسلوب خبيث ومريع للقتل البطيء.

 الطغاة في العالم مازالوا يخترعون وسائل القمع، الوسيلة تلو الأخرى، إذا منعهم القانون من البطش، تحايلوا واخترعوا إجراءات أخرى بديلة أو موازية، ومن هذه الاختراعات الإقامة الجبرية. فلا هو سجن ولا هو حرية .. بينَ بين. المفروض أن يخضع الشخص لمحاكمة عادلة، فإما أن يدان وإما أن يبرأ. إما أن يعاقب وإما أن يطلق سراحه. أما الإقامة الجبرية فهي إجراء استثنائي هدفه القفز فوق القانون.

 لقد وُضعت على مر التاريخ العديد من الشخصيات رهن الإقامة الجبرية منهم محمد نجيب، وعبدالحكيم عامر، وبنازير بوتو، ومير حسين موسوي، ونواز شريف، وأحمد ياسين، وسيدي محمد ولد الشيخ عبدالله، وغيرهم..، ولعل أحدث الشخصيات التي خضعت لهذا الإجراء التعسفي هي زوجة المنشق الصيني ليو تشيابو الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2010 ، التي وضعت قيد الإقامة الجبريّة، ويقضي ليو تشياوبو عقوبة بالسجن 11 عاما لمشاركته في وضع ميثاق يطالب بإحلال الديموقراطية في الصين.

وتستخدم العديد من الدول سلاح الإقامة الجبرية لتقييد تحركات المعارضين السياسيين، ويتم بموجبه تحديد إقامة الشخص في مساحة محددة لا يخرج عنها، ومنع تواصله مع العالم بأي وسيلة، والناظر لهذا النوع من العقاب سيكتشف أنه عقاب نفسي قبل أن يكون عقابا جسديا، ورغم أن الإقامة الجبرية في ظاهرها أخف وطأة من السجن، إلا أن السجين عادة ما تكون له حقوق وواجبات، ويكون سجنه قد تم بعد اتهام واضح، وغالبا نتيجة محاكمة، أما قرار الإقامة الجبرية فيتم جزافا من قبل مسؤول، أي مسؤول لدواع قد تكون حقيقية أو مصطنعة، ويكون هدفها في غالب الأحيان تعسفيا.

 تضع إسرائيل كل يوم العشرات من الشباب الفلسطيني تحت الإقامة الجبرية، وذلك ردا على نشاطات المقاومين وعملياتهم الفدائية ضد الاحتلال، وتتعسف في هذا المجال، حتى إنها تتخذ نفس الإجراء ضد شباب صغير السن ألقى الحجارة على دبابات المحتلين، حتى إنها وضعت طفلا صغيرا في الجولان المحتل رهن الإقامة الجبرية.

والملاحظ أن معظم إن لم يكن كل حالات الإقامة الجبرية في العالم تتخذ بشكل تعسفي ضد معارضين أو أصحاب رأي أو نشطاء، أو خصوم سياسيين، أو زعماء أو مقاومين، لم نر هذا الإجراء اتخذ مرة ضد تاجر مخدرات، أو لص بنوك، أو بطل جريمة فساد مروعة. الإقامة الجبرية كانت دائما سلاحا ضد الشرفاء.

هناك نوع من الحجر الصحي، يستخدم ضد المرضى الذين يخشى من إيذائهم لأنفسهم، أو نقلهم العدوى لآخرين، ويتم ذلك من قبل المؤسسات الصحية، وهو يسمى "العزل الصحي"، وإن كان هذا الإجراء بدأ يتآكل في ظل اعتراض الكثيرين عليه، لأنه يسلب المريض حقا من حقوقه الأساسية، وهو الحرية، حتى مريض الإيدز الذي كان يعزل منذ سنوات، ويتجنبه المجتمع، أصبح من حقه الآن أن يمارس الحياة بشكل عادي في المجتمع بعد اتخاذ إجراءات وقائية معينة.
وهناك نوع آخر من الإقامة الجبرية الذاتية، وفيها يحكم المرء على نفسه بالسجن المؤقت داخل منزله، وهو ما يمكن أن نسميه "إقامة طوعية"، ووراء ذلك غالبا دوافع نفسية، تتراوح بين الدافع الطبيعي البسيط، كالاكتئاب والرغبة في الانعزال عن الناس والتفكير، وعدم الاتصال بأحد، وقد تتراكم الدوافع لتصل إلى حد المرض النفسي المزمن.

 أعرف طبيبا نابها ابتعث إلى لندن للحصول على الدكتوراة، وهناك حصل على الدرجة العلمية الرفيعة بتفوق، وبعد عودته إلى القاهرة منذ أربع سنوات، ذهب لاستلام عمله الحكومي، وعندما عاد بقي حبيسا في منزله حتى اليوم، لا يخرج أبدا، وقد حاول الأطباء علاج حالته دون جدوى.

 القهر والإحباط والمشكلات الاجتماعية قد تدفع الكثيرين إلى هذه الحالة الطوعية من الانعزال، ورفض المجتمع، ولكن الشيء الخطر أن تتزايد الضغوط النفسية على الإنسان لتصل إلى هذه الحالة المرضية المؤسفة، ومهما كان هذا النوع من الإقامة ، فإنه يكون خارج إرادة الشخص.

الإقامة الجبرية صورة قمعية لقهر الإنسان لأخيه الإنسان، حتى لو تذرع بأسباب موضوعية، فحتى المجرم له حقوق، وحبسه لا يجب أن يتم إلا بحكم قضائي، وهي آفة تضاف إلى قائمة من الإجراءات التعسفية التي تمارس ضد الإنسان، كالمنع من السفر، والمنع من الكتابة، وفرض الطوارئ، وتقييد الحريات، وهي كلها إجراءات ضد القانون والعرف والحرية الإنسانية.