هناك كاتب يغرد كالعصفور بحرية، وهناك آخر يكتب بالأمر المباشر، وثالث يكتب ومسدس موجه إلى رأسه، ورابع يكتب وشخص يحمل الكلبشات في الكواليس، وهناك من يعلق على رقبته For Rent، شاهد زور يلجأ إليه البعض للشهادة في قضايا النفقة وتبديد المنقولات، وأخيرا هناك كاتب لا يخشى في الحق لومة لائم، مستعد دائما لاستقبال زوار الفجر، للأسف هذا هو الواقع .
وهكذا أصبح لدينا كاتب يكتب بإرادته دون توجيه، والثاني يكتب بالتوجيه أو الإيعاز، أو الضغط، أو الابتزاز، أو الطمع، أو التطوع، أو الإيحاء، يفهمها وهيه طايرة، وفقا لتعبير "الكلام إلك ياجارة".
وعندما يزداد القمع، يلجأ البعض إلى الرمز، أو اللف والدوران، أو "التلقيح"، المهم أن يصل رأيه بشكل أو بآخر، والتحايل على مقص الرقيب، وأفرز لنا هذا الوضع الرمزية، ونجح أصحاب هذا الأسلوب في تمرير العديد من الأفكار من وراء الرقيب الغبي الذي عادة لا يفكر، ولديه كليشة محددة للمنع .
تسبب القمع على مر التاريخ في ازدهار فنون كثيرة كالأدب الساخر، والكاريكاتير ، وصحافة النميمة، والأسماء المستعارة، وظهرت أبواب صحفية تلبي تلك الحاجة مثل "العصفورة" و"حشرية" وغيرها ..
أكتب منذ 40 عاما ، ولم يحدث يوما أن طلب مني أحدهم الكتابة في موضوع محدد من ناحية، ولم أضطر إلى النفاق أو التطوع لتأجير قلمي من ناحية أخرى، وتلك نعمة كبرى، لذلك لا أستطيع تخيل شعور الكاتب الذي يكتب بالأمر المباشر، لا أتصور كيف يشعر من يتلقى توجيها بكتابة مقال لتلميع شخصية سياسية ما، أو إعداد تحقيق لترويج منتج غير صالح للاستهلاك الآدمي، أو تمجيد موقف مخزي.
ولكن المتابع للساحة يكتشف أن الكثيرين سقطوا في الفخ أو قفزوا بإرادتهم فيه ، أو اضطروا لترك أنفسهم للتيار دون مقاومة، بعد أن أعيتهم السبل ، ولكن رغم ذلك كله كان الكاتب الحر هو القاعدة، والكاتب المؤجر هي الاستثناء.
ولكن في الخمس سنوات الأخيرة تغير الوضع، وانتشر الإعلام الموجه، فشاهدنا صحف وقنوات ومواقع ألكترونية تعمل كلها بالأمر المباشر، وتراجع الإعلام الحقيقي، وأصبح الصوت الأعلى في الساحة الإعلامية لمن يملك أكبر عدد من الأبواق.
وعندما إنتشر الإعلام الجديد، وأصبح الأكثر تأثيرا في العالم، حاولت نفس الجهات تطبيق نفس النظرية بتكوين كتائب إعلامية تغرد وتنشر الصور والبوستات، وتعلق، وتفبرك الهاشتاجات في موضوعات محددة، لتضليل الرأى العام، وتوجيهه إلى حيث يريدون.
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد أدى ذلك إلى نتيجة عكسية، وهي ازدياد وعي المستخدم العربي ، وقدرته على التمييز بين الخبر الحقيقي والمفبرك، وتمكنت الحقيقة البسيطة بعفويتها وصدقها من التغلب على طوفان المعلومات الكاذبة، وأصبح الخبر الكاذب مادة للسخرية و"القلش" والتندر في مواقع التواصل الاجتماعي.
استغلت بعض الأنظمة على مر العصور إعلاميين وفنانين وكتاب لتمرير رسائلهم المشبوهة، ووصل الأمر إلى تكليف بعض الفنانات بمهام قذرة كالدعارة لتحقيق ذلك، وقبلت بعضهن للأسف ذلك تحت شعار "خدمة الوطن"، ورغم أن هذه الوسائل كشفها التاريخ ، لازالت عملية استغلال الاعلاميين مستمرة بوسائل مختلفة.
الكتابة بالأمر المباشر خيانة، فعل فاضح في الطريق العام، عملية تزوير متكاملة الأركان، تغول واضح على ضمير الإنسان.
تاريخ الإضافة: 2017-08-13تعليق: 0عدد المشاهدات :1494