5 سنوات وأنا أردد رأيا معينا، أكتبه في المقالات ، وفي التقارير الصحفية ، وفي بوستات فيسبوك ، وتغريدات تويتر، وأجهر به على المقهى، أصرخ به في الندوات، أترجم الوثائق من الصحف الأجنبية، 5 سنوات، وهذا الرأى يستفز الكثيرين ، البعض كان يرفضه ، والبعض الآخر يلومني عليه، والبعض الثالث يدافع ويتهمني بالمبالغة والشطط . حتى أن بعض الأصدقاء همسوا إلي .. "خف شوية" .
لم أجزع ، ولم أتردد ، ولم أغير رأيي قيد أنملة، وبعد سنوات فوجئت بالعالم يردد الرأى الذي قلته، الكل بلا استثناء، يتحدثون أمام الشاشات بنفس العبارات التي قلتها في الماضي، ونفس الوقائع ، والتفاصيل ، نفس الحدة، .. أتأمل حولي وأقول "سبحان مغير الأحوال".
ليست القضية الآن ماهو الرأى الذي أعتنقه، ولكن القضايا الأهم، هي كيف يؤمن المرء برأي معين ، هل يتم ذلك وفقا للهوى الشخصي ، أم الثقافة ، أم التجربة ؟، ما الذي يجعل الانسان مؤمنا برأى معين ؟، من أين يمتلك الإرادة لكي يتمسك بهذا الرأى حتى النهاية ، حتى لو جوبه بسبب هذا الرأى بالظلم والتهميش والازدراء؟.
وهل يغير الإنسان رأيه ؟، وكيف؟ ، وما هو متوسط الفترة الزمنية التي يمكن للانسان أن يعتنق فيها رأيا ما؟، خمس سنوات أم عشرة ، وهل هناك من يؤمن برأى محدد طوال العمر ؟، وماذا يحدث لو أفنيت عمرك في اعتناق رأى، ثم فجأة اكتشفت أنك حمار ، وأنك كنت ضحية لأكبر خدعة في حياتك .
وإذا غيرت رأيك .. هل تخجل من رأيك السابق ؟، هل تتوارى خجلا، وتقول "يا أرض انشقي وابلعيني" .. أم تتحلى بالشجاعة وتعترف بالخطأ على رؤوس الأشهاد ؟.
وكيف تحصن نفسك من الخديعة ، وتعتنق الرأى الأصح ؟، في عالم اليوم العديد من وسائل الخداع التي تعمل كلها عليك ، الاعلام والمسؤولين والإعلانات والثقافة الاجتماعية .. مؤثرات عديدة تضللك وتسلط أضواء الليزر على عينيك .. هذا يحاول أن يقنعك برأيه ، وآخر يقنعك بمذهبه .. وأنت بين الاثنين كعصا البندول مرة هنا ومرة هناك .
على مدى حياتي المهنية اعتقدت آراء، ثم بالبحث والقراءة والتجربة اكتشفت أنني على خطأ ، فاعتنقت رأيا آخر ، وهذا شيء طبيعي ، البعض يلوموننا لأننا نغير آرائنا .. وهذا هو الفهم الخاطيء، لأن من لا يغير رأيه هو الدابة التي تمشي كل يوم في الطريق المرسوم لها لا تحيد عنه أبدا ، أما الانسان فيخوض التجارب، ويتعلم، ويغير رأيه .
هناك آراء تمسكت بها ، رغم رفض الآخرين واستهجانهم ، وبعد سنوات فوجئت بالجميع يرددون ما قلته بالحرف ، والعكس آراء لآخرين كنت أستهجنها وأعارضها بشدة وأخون أصحبها وأرميهم بالظنون، وبعد سنوات اكتشفت أن هؤلاء كانوا على الصواب وأنا على الخطأ . فرفعت القبعة وقلت لهم .. سامحوني .
تغيير الرأى سنة الحياة ، لأن الرأي ثمرة للتفكر والتدبر والتجربة الحية الموجعة، والتطور لا يأتي إلا بالتجريب والخطأ . المهم أن تضع معاييرا لتكوين الرأى ، لا تجعل نفسك زمبلك يتحرك بالريموت كنترول .. امش هنا .. امشي هناك ..
ضع معاييرك للرأى الصائب، ولا تعتنق الأفكار بسهولة .. اقرأ، تعلم، قارن .. وردد دائما " اللهم أرني الحق حقاً وارزقني إتباعه ، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه ".
الرأى مسؤولية كبرى ، فقد يقودك إلى الجنة وقد يقودك للنار ، وإذا كنت كاتبا يمكن أن تضلل برأيك الملايين فيمشون ورائك كالعميان ، فتقودهم إلى الهلاك.
الرأى شهادة وميثاق وعهد أمام الناس، فإن كتبت أصدق القول، وإن أخطأت اعتذر كما يعتذر الفرسان، وقبل أن تعتنق الرأي تلفت وراءك، لتعلم أن الملايين يمشون خلفك .