كان سيدي محمدين يتكيء على عصاه في حوض عيسى، ويمد يده، مشيرا إلى الحقول الممتدة ويقول: أرض أبوك من هنا إلى هنا.
حوض عيسى منطقة زراعية تابعة لقرية كفور بلشاي من أعمال بندر كفرالزيات، يزرع بها الفلاحون أراضيهم التي أعادها لهم عبدالناصر، بعد سنوات من الإقطاع، .. غيطان مصر المحروسة المزروعة بالتعب والعمل والأمل الجميل، سبوع مصر الولَادة، والدليل على خصوبتها، وقدرتها على الإنتاج.
في حوض عيسى ـ حيث الأفق في عناق أبدي مع الخضار ـ كنا نقضي سويعات الزمن الجميل، نشوي أكواز الذرة، نلعب ونركض ونتسابق، ونغتسل واحدا واحدا في الطرمبة، أفرك بيدي الثرى الممزوج بالماء.
هنا كان والدي الشيخ الصوفي بجلبابه الأبيض يجمع حوله المريدين، ويروي حكايات الطريق إلى الله، هنا كان عمي يعبر الترعة مشيا على الأقدام ليحضر لنا التوت من الضفة الأخرى، وهنا كانت نجاة تركبني الحمار وتسوقه ببطء وأنا سعيد كالصغير الذي قابل الأقزام السبعة، .. هنا غرفة التبن التي كانت تثير داخلي الغموض، .. هنا كانت ستِي فريدة تقدم لي إفطارها الصباحي الشهي شلية اللبن، .. وفي الحارة كانت السيدة السبعينية تقضي يومها في تلييس بيتها الريفي حتى أصبح قطعة فنية تضاهي منحوتات هنري مور.
هنا كانت جنينة القرية، والتي منحت الحارة اسمها القديم "حارة الجنينة" قبل أن يتغير إلى "شارع الجمهورية"، .. نتسلل إليها لنعب من الرطب الشهي، فيستقبلنا المزارع العجوز المختص بتقليم النخيل، ويهدينا لعبا مصنوعة من الجريد المشقوق، عند ضربها على راحة اليد تحدث فرقعة مدوية.
أتذكر سيدي خلف المغربي الذي يعمر مولده في أغسطس من كل عام، ويجمع حول مقامه البسطاء الذين سحقتهم الحياة، ويتعلقون بأولياء الله الصالحين، لازال في سمعي الشيخ إبراهيم الدسوقي الذي كان يجذب أهالي قسطا وكفرالقصار ودقرن وكفر الشيخ علي وبنوفر في مدائح نبوية حتى الفجر، والصييت الذي كان يروي القصص الشعبية بشكل غنائي، فيجذب المستمعين بحكاية "رؤوف ورئيفة"، وهو فن يقابل الحكواتي في الشام.
اليوم وبعد 30 عاما أعود إلى حوض عيسى، فأجد الحقول كما هي، والترعة كما هي، وطرمبة الماء لازالت تسقي العابرين، أفرك بيدي الثرى الممزوج بالماء، فأشعر بنبض الأرض التي ركضت عليها منذ عشرات السنين، استنشق رائحة الطمي، فتنهض الروح، ولكن غاب عن المشهد أبطال الحكاية، جدي، وأبي، وعمي .. ونجاة .
اليوم أرجع إلى كفور بلشاي ملعب الطفولة، والطفل داخلي ضرب الشيب رأسه، وأرهقته التجارب، أعود كالفارس المهزوم الذي كسب كل المعارك، وخسر معركته الشخصية، فأجد الوجوه تغيرت، .. أفتش عن بيت العمدة ببوابته التاريخية العتيقة الذي كان يجمع أهالي القرية في الأفراح والأتراح فلا أجده.
النيل الذي كان جوادا يقدم عطاياه أصبح شحيحا مهددا بالعطش، والجنينة التي كانت مرتع الطفولة اختفت بعد ان دخلت كردون المباني، والبيوت الريفية البسيطة أصبحت أبنية خالية من الحياة، والكنابيل التي كانت تنقل الأهالي إلى المركز والتي كانت تظهر في أفلام الأبيض والأسود اختفت، وحل محلها التوك توك، وشحاتة صانع الأقفاص انقرضت حرفته بعد ظهور اختراع الكراتين، أما أصدقاء الصبا ففرقت بينهم الحياة.
اليوم أقف وحيدا أمام السواقي التي تلفظ أنفاسها كالشاعر الجاهلي الذي يقف على الأطلال للمرة الأخيرة، أفتش في وجوه الناس عن نفسي وأهلي وعشيرتي ، أبحث كثيرا، فلا أجد إلا غابات الأسمنت.
تاريخ الإضافة: 2016-08-03تعليق: 0عدد المشاهدات :1808