الشعب المصري عائش في الماضي .. ليس الماضي القريب ، ولكنه الماضي السحيق .. يأكل ويشرب وينام ويستيقظ في الستينات والسبعينات، وما قبلها، بينما يستقريء العالم ملامح 2050.
إذا لم تكن تصدق ، فسِّر لي حالة المشاركات المستمرة لصور الرئيس جمال عبدالناصر على فيسبوك في ذكرى ميلاده ووفاته..، ليست القضية شخص عبدالناصر الذي أقدره، ولكن في هذه العادة الغريبة التي نمارسها كمصريين، وهي عبادة الأشحاص .
هذه الظاهرة لن تجدها في الغرب أبدا .. هل رأيت المستخدمين الأمريكيين على فيسبوك مثلا يحتفلون بذكرى ريجان، ويشاركون صوره في يوم ميلاده أو حتى وفاته ؟، هل رأيت بريطانيا يصاب بهذه الحالة من الهوس كلما حلت ذكرى تولي رئيس مجلس الوزراء الأسبق جون ميجور، ويشارك صوره فخورا متباهيا بحقبته الذهبية ، وهل يمجد ألماني المستشار السابق هيلموت كول، ويتفاخر الفرنسي بفاليري جيسكار ديستان .. كما نفعل .. ؟، بالطبع لا . بل الأنكى هل رأيت شعبا يمجد رئيس دولته بالكوميكسات والكاريكاتير التذكاري، والقصائد، والأغاني الخاصة كما نفعل نحن؟.
في مصر خاصة، والعالم العربي عامة ، نحتفي كثيرا بالشخص، حتى ولو كان هذا الشخص مات من 100 سنة وشبع موت ، الفردية جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية، وتأليه الحاكم ثقافة عربية متجزرة، النجاح فرد، .. لذلك نفتقد دائما للعمل الجماعي، وتضيع علينا النظرة الموضوعية، ولذلك أيضا نخسر دائما في معارك المستقبل .
السياسي في الغرب سواء كان رئيس دولة أو رئيس وزراء إنسان عادي لا قدسية له ، موظف يؤدي عمله لفترة محددة، ثم يعود إلى صفوف الجماهير ، ويركب المترو ، ويستقل الدراجة ، ويشترى أغراضه من السوبر ماركت، أما عندنا فالرئيس ظل الله في أرضه ، إذا ظهر في مكان ما نتمسح به كما نتمسح بأولياء الله الصالحين .
هل الظاهرة نفسية ؟، انعكاس لافتقاد المواطن لنموذج القدوة .. والبطل ، فلا يجد أمامه سوى التاريخ ، فيستدعي أي شخصية عظيمة قديمة يحتفي بها ؟، هل هو إسقاط نفسي على الواقع الذي عقمت تربته فلم تنجب مثل هؤلاء العظام ؟، هل الاحتفاء بالماضي صرخة مكتومة للاعتراض على الواقع المليء بأشباه المبدعين ؟، هل هو أسلوب رمزي للاعتراض، في ظل غياب المعارضة، يمارسه البعض وفقا لقاعدة "الكلام إلك ياجارة"؟
أيا كان السبب ، ففي كل الأحوال هذه ظاهرة غير صحية ، عندما يفقد المرء عزيزا يحزن عليه أسبوع أو شهر أو سنة، ولكن ليس من الطبيعي أن يحزن عليه العمر كله .. ، ولكن عندنا يموت الشخص فتستمر حالة الندب السياسي طوال الحياة .
العيش في الماضي مشكلة ثقافية في الأساس ، فالثقافة العربية للأسف تدفع للتمسك بالعادات والتقاليد ، وتتوجس من التطور ، وفي هذا الإطار يمكنك أن تفسر ولع العربي بالتراث، والأدوات البالية، والأزياء القديمة.
العيش في الماضي مشكلة عويصة، إذ أنها أحد أسباب التخلف الذي نعاني منه الآن ، فبينما ينبش العربي في الماضي، ينبش الغربي في المستقبل ، لذلك استوطن التخلف هنا، واستوطن التقدم هناك.
لا أعترض على الحنين للماضي، أو الاحتفاء برموزه ، والبكاء على أطلاله كما كان الشعراء القدامى يبكون على الأطلال، سأقبل مضطرا حالات الندب العلني والبكاء على رموز رحلت منذ مئات السنين، ولكن على أن لا يتخطى الأمر حدود المعقول فيشدنا الماضي إليه ، بدلا من أن يجذبنا المستقبل .