منذ عشرين عاما كانت لفظة المدَّعين رائجة، كنا في أحاديثنا ومداخلاتنا، بل ومشاركاتنا الصحفية نتحدث عن المدَّعين أو الأدعياء ، وأحيانا نستخدم لفظة الجهلاء الذين يملأون الساحة، كان هناك رفض عام للمدعين، ليس في الأدب فقط، ولكن في كل المجالات .
والمدَّعي هو من يدعي تميزه بشيء ليس فيه ، كالشخص الذي يدعي أنه أديب، وهو لا يعرف الألف من كوز الذرة، والمطرب الذي يتقمص الحالة ويتشنج، ويعتقد في قرارة نفسه أنه العندليب الأسمر، بينما هو في الحقيقة حمار حصَّاوى.
المدَّعون في الحياة كثيرون، نقابلهم في العمل ، والشارع، والحيّ، وقصر الثقافة، وأروقة الصحف، ولكن الفرق أن المدَّعين في الماضي كانوا يواجَهُونَ برفض عام ، محاصرين دائما بالسخرية، والاستهجان، وفي أضعف الحالات النقد.
ولكن اليوم انتشر المدعون ، وكسبوا أرضا جديدة، وتسللوا إلى مجالات مختلفة، ليس ذلك فقط، ولكنهم تبوأوا المناصب، وبعضهم ساقه الحظ ليأخذ مكانًا رسميًا ، فأصبح الإدعاء أداة تنفيذية في المجتمع .
المدَّعون موجودون في الأدب، والفن، والاعلام، والغناء .. حتى في السياسة، وأيضا الرقص ، والراقصة المدَّعية هي التي لا تجيد الرقص، فتتلوى كأنها مصابة بالمغص، مثل هيفاء وهبي، بل أن الأمر وصل إلى الحرف كالكهرباء والسباكة، فرأينا جيلًا من الصنايعية، أضاع سمعة الصنايعي المصري، يأخذ المهنة كما يقول التعبير الشعبي بالذراع دون علم أو حتى خبرة ..، وإن كانت النسبة الأكبر منهم في المجالات التي تعتمد على الشهرة مثل الأدب، والإعلام حيث للأديب لازالت وجاهة يسعى إليها الكثيرون .. حتى لو تم ذلك عن طريق الادعاء .
المؤسف أن بعض المدَّعين يصدقون الكذبة، ويقضون عمرهم في الركض خلف السراب، معتقدين أنهم أدباء ومفكرون، وأنهم يقدمون للبشرية إنجازات عملاقة، بينما هم في الحقيقة لا يملكون إلا الخواء، فتأخذ القضية أحيانًا منحى إنسانيًا، وفي هذه الحالة يتحول نقدك واستهجانك إلى إشفاقٍ وتعاطف.
المتابع للساحة الآن سيكتشف أن المدَّعين أصبح لهم حظوة في المجتمع ، فتقلدوا المناصب، وأداروا الفعاليات، ونظموا المسابقات الوهمية، ومنحوا بتبجح شهادات الدكتوراة الفخرية، ليس ذلك فقط، فبعد أن كان الواحد منهم في الماضي لا يجرؤ على استخدام لقب دكتور حصل عليه من جمعية وهمية تبيع الألقاب، أصبح الآن يصدر اسمه باللقب المزيف، و"لا همُّه"، ويتمسك البعض باللقب المزيد حتى بعد الوفاة، حيث ينشر البعض نعى المتوفي مسبوقا بلقب "الدكتور".
وازدهرت بالتوازي "صناعة الادِّعاء" فرأينا العديد من الجمعيات والاتحادات الوهمية التي تخصصت في بيع الشهادات والألقاب والجوائز مقابل المال، في ظل غياب تام للأجهزة الرقابية التي من مسؤولياتها الرقابة على هذه الأعمال باعتبارها أحد وجوه النصب والاحتيال .
الادِّعاء في الأساس قضية نفسية، يكون المجتمع أحيانا هو المحرك الرئيسي لها، فعندما تعم الفوضى وتتراجع القيمة، يختلط الحابل بالنابل، والمثقف بالجاهل، والوطني بالعميل ، ويتمترس الناس خلف الأقنعة الكاذبة.
للأسف المدَّعون الآن في كل مكان، لذلك من الصعب مواجهتهم، لأنك لو فعلت ستطلع أنت الجاهل والحاقد الذي لا تريد الخير للناس.
القضية تحتاج إلى قرار سيادي، يمكِّن المبدع ، ويحيل المدَّعي على المعاش، .. ولكن لأن ذلك القرار خيالي، لا مفر من التعامل مع المرض، والتكيّف معه بتأهيل المدَّعين، وذلك بتنظيم برامج تدريب إلزامية لهم بعناوين براقة لا تجرح مشاعرهم، يتعلمون من خلالها الحد الأدنى من القيمة .