يجب أن نستعد جميعا لإنقراض التلفزيون، هذا ما سيحدث بعد سنوات قليلة بعمر الزمن، قد لا يصدق البعض، ولكنها الحقيقة، سينقرض أراجوز الشعوب، وفي أحسن الأحوال سيتحول إلى قطعة ديكور، أو شاشة إعلانية تعرض فيه الجهات خدماتها في غرف الاستقبال، وبوق إعلامي غير موثوق لرجال الأعمال الذين يحبون المنظرة، والنظم الدكتاتورية التي لازالت تؤمن بالإعلام الموجه .
سينتهي التلفزيون الذي طالما جمع الأسرة في ليالي الأبيض والأسود، ويختفي الجهاز المبعجر من الغرف والصالات والمكاتب، حتى بعد أن تحول إلى أجهزة نحيلة ورشيقة تعلق على الجدران .. كله سيختفى تحت زحف التطور التقني الهائل الذي يحدث كل يوم .. بل كل ثانية .
سينتهي التلفزيون كما انتهى الكتاب، والبيجر، وشرائط الكاسيت، وجهاز الفيديو، .. وغيرها من الأجهزة التي قامت بدورها بشجاعة واستبسال وتضحية، ولكن جاء دورها لتأخذ مكانها الطبيعي .. غرفة الكراكيب.
يجب أن يستعد ملاك الفضائيات الذين أنفقوا عليها الملايين بل المليارات لخسائر فادحة، وأن يجهزوا أنفسهم من الآن لأكبر عملية تسريح موظفين، ويبحثوا لأنفسهم عن "شغلانة تانية" بعد أن لعبوا عقودا بعقول الناس، ولم يقدموا إلا الهلس، والتوك شو، والدجل السياسي .
لا أدري ماذا ستفعل الدول التي لازالت تفرض ضريبة على التلفزيون مثل الدنمارك.، ماذا سيكون رأى رجل الأعمال السعودي صالح كامل صاحب قنوات ART الذي قال منذ 15 عاما "انتهى عهد المشاهدة البلُّوشي" عندما كانت قنواته تحاول أن تبيع المشاهدة التلفزيونية، ماذا سيقول وهو يرى أن التلفزيون لم يعد فقط بلوشي كما بدأ، ولكنه أصبح يتسول المشاهدين .
السبب هو هذا الاختراع الغريب والعجيب "يوتيوب" الذي أصبح تلفزيونا شخصيا للفرد والعائلة والمجتمع، المتتبع لأرقام هذا الموقع سيكتشف أنه لم ينجح فقط أو ينتشر، ولكنه سيطر تماما على خيارات الإنسان، لقد أصبح وسيلة للمشاهدة والمتعة والبحث والتوثيق، وأيضا البث ، حيث يمكن لأي شخص أن يطلق من خلاله قناته الخاصة وتلفزيونه الخاص، كل ذلك يتم بقدرات خيالية وبضغطة زر ، وأيضا بلُّوشي .. والمدهش أنها يمكن أن تجلب لك أيضا الأموال .
وكالعادة تأتي التقنية وتحدث فرقا شاسعا، وتلغى من أمامك مبدأ الاختيار، فالتلفزيون الذي يفرض عليك مكانا محددا، بل وقنوات محددة، لا يمكن أن يقارن بموقع يضع العالم في جيب سترتك، .. لا يمكن مقارنة جهاز يفرض عليك أن تكون متلقيا فقط، إلى آخر يتيح لك فرصة المشاهدة، والاختيار، والتفاعل، والتواصل، ونسب مشاهدة خرافية، والمشاركة في البث، بل وكسب الأموال .
فرق شاسع بين صندوق فشل طوال نصف قرن في التثقيف، والتعليم، والتنوير، والعمل العام، على العكس نشر الإرهاب، والتطرف، والجهل ، بموقع عالمي يحترم عقلك، ويحضك على البحث، والتفكير، والمشاركة .
المشكلة الحقيقية ليست في التطور، ولكن في عدم توقعنا لهذا التطور، ومواكبته، فلو توقع أصحاب المطابع تغير أساليب النشر لتخلصوا من المطابع الحديدية التي تقدر بالملايين، وبدأوا منذ 15 سنة في النشر الألكتروني، ولو تنبه أصحاب الصحف الورقية للرجال الآليين القادمين عبر الإنترنت، لبدأوا منذ 15 سنة عهد الصحافة التقنية العجيبة، لو أدرك ملاك الفضائيات المشكلة التي يواجهونها الآن، لقالوا منذ سنوات طويلة "باي باي تلفزيون".
المشكلة الحقيقية في ردة فعل الانسان العربي البطيئة جدا مع التغيرات الحياتية، والتي لا تتناسب مع إيقاع التقنية اللاهث السريع، وهو ما يكلفنا دائما كما يقول التعبير الشعبي "الجلد والسقط".