حاتم صادق يكتب : هلوسات فيسبوكية تهدد مفاهيم المعرفة
دمشق : حاتم صادق
إذا أردنا أن نطلق على العصر الحالي الذي نعيش فيه تسمية تعبر عنه، لن نجد أنسب من تسميته بعصر الانترنت والتواصل الاجتماعي المفتوح على كل الحضارات والثقافات والديانات والقوميات والإثنيات والمذاهب والمعتقدات والأفكار، في مختلف المجتمعات والتجمعات والبيئات والعوالم والأماكن على وجه الكرة الأرضية، كما أن عدد مستخدمي برامج الاتصالات وأصحاب الحسابات فيها من البشر وصل إلى المليارات، إضافة إلى أن التطور والتحديث والابتكار في مختلف مجالاتها يتم يوميا وخلال أزمنة يمكن قياسها بالساعات والدقائق وأحيانا بالثواني، إلى جانب شموليتها لكل مجالات الحياة والإنسان والطبيعة والفضاء بما فيها العلوم والآداب والثقافة والفكر والمعرفة والاقتصاد والمجتمع والبحث وغيرها على الصعيدين الإيجابي والسلبي، مع ترجيح كفة الإيجابي وترك حرية الاختيار للمستخدم.
حرية بلا قيود
وعلى الرغم من ادعاء الشركات الأميركية صاحبة النصيب الأكبر من ملكية هذه الشبكات بما فيها من برامج ومحركات بحث وغيرها بأنها تسعى لخير الإنسانية إلا أن الواقع يشي بغير ذلك، مع التأكيد على أن ذلك لا ينفي وجود مساحة واسعة من الإيجابية المؤثرة في الحياة البشرية، تساهم بإطارها العام في دفع المستخدمين نحو الخير والبناء والتعاون وتحسين الظروف الحياتية الإنسانية في مختلف المجالات، إلا أن الحرية التي يعلن عن توفرها لمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي بإصرار، ولا تؤثر فيها بعض القيود التي توضع لحماية الناشئين، والحفاظ على الترابط الأسري حسب تركيبة كل مجتمع، وحماية القيم والأخلاق ومفاهيم الإيمان الشخصي بكل مستوياته وتوجهاته، هذه الحرية أتاحت المجال واسعا لحدوث خرق حقيقي في تماسك الأهداف التي أعلنت عنها الجهات المشغلة لهذه الشبكات لا يستند إلى أي أساس علمي أو فكري أو اجتماعي أو اقتصادي أو ديني، ويفتح الباب واسعا أمام انتشار خزعبلات لا يمكن حتى تخيل حدوثها أو واقعيتها.
نماذج مثيرة للجدل
ودعوني أدخل الآن في صلب الفكرة واذكر بعض النماذج التي يتم تداولها على صفحات التواصل، وتدور حولها نقاشات تأخذ في كثير من الأحيان طابعا حادا في طرح الرأي ونقيضه، والدفاع عنهما بطريقة تعتمد على مبدأ أن العلم يسمح بتوقع صحة كل شيء مادام حدوثه ممكنا، وهذه حقيقة ثابتة تم الاعتراف بها دائما، لكن المشكلة في كيفية التثبت من صحة الأشياء والأحداث التي تطرح على هذه الصفحات كحقائق قائمة، والآن إلى النماذج التي تطرح على الحسابات:
# الحديث عن وجود مخلوقات فضائية من كواكب أخرى يقيمون على الأرض من سنوات بعيدة بعضهم يؤكد أنها عقود، وقد يلتقي كثيرون منا بهذه المخلوقات في حياتنا العادية اليومية دون أن نعرفهم، وهؤلاء يتحكمون في كثير من الأحداث والمتغيرات على الأرض نظرا لتقدمهم العلمي الذي يسبقنا بسنوات كثيرة.
# التغيرات المناخية الغريبة في بعض المناطق في العالم كالجفاف والأعاصير وسقوط الثلج بكثافة في المناطق الصحراوية التي لم تشهد بتاريخها مثل هذه الظاهرة، وارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق في مناطق باردة جدا، وحدوث موجات تسونامي وزلازل وغير ذلك من تغيرات غير معهودة سابقا.
# الحديث عن قرب نهاية العالم وحدوث يوم القيامة وظهور المسيح والمهدي المنتظر والدجال وملحقات الحدث والعلامات على ذلك، وقيام كثيرين بفبركة صور ودلائل وعلامات ينسبونها إلى مصادر عليمة ويضعون شواهد عليها، وآخرها نشر فيديو لخيول طائرة في سماء عُمان بعد العواصف المطرية الشديدة التي شهدتها منطقة الخليج العربي مؤخرا وأطلقوا عليها ( خيول يوم القيامة ).
# الحديث عن تغير شكل القمر وغيابه لفترات غير محددة في غير مواعيده، واستخدام إضاءة فضائية عملاقة اخترعها الإنسان تحل محله، وتعطي إيحاء بوجوده حتى لا يحس سكان الأرض أن هناك متغيرات غريبة حول كوكبهم. # تداول معلومة عن أن الرئيس الأميركي باراك أوباما مخلوق مستنسخ وليس بشريا عاديا، ويستدلون على ذلك بتخيلات غريبة عن تصرفاته وقراراته وحركاته.
# توقع اصطدام كويكبات أو نيازك أو مذنبات شاردة بالأرض بصورة غير معهودة، ما قد يتسبب في دمار كبير وتغييرات خطيرة مثل انحراف الأرض عن مدارها حول الشمس أو ميلان محورها أو غير ذلك.
# التنبؤات التي يطلقها متنبيء أميركي عن غرق أجزاء كبيرة من الجزر اليابانية ومن القارة الأوروبية خلال العام الحالي أو العام القادم، وتشكيل روسيا اتحاد جديد تتزعم به العالم وتصبح القوة الأولى والأهم في العالم الجديد المتشكل بعد الكوارث التي ستصيب العالم، وكثير غير ذلك مما يحق لنا أن نطلق عليها دون حرج تسمية ( هلوسات فيسبوكية ).
تطور بلا حدود
ومع قناعتي أن العلم البشري وصل إلى مراحل من التطور قد تتجاوز هذه الأفكار في مختلف المجالات الفضائية والطبية والمناخية والاقتصادية وغيرها، كما أن تقنيات برامج الاتصالات وصلت إلى حدود تخطت كل التوقعات، حتى ليصعب على المختصين فيها أن يميزوا بين الحقيقي والمزيف مما تعرضه هذه البرامج من الصور والفيديوهات والتشكيلات والوقائع والأخبار وغيرها، كما أن البرامج العلمية السرية للدول المتقدمة كالولايات المتحدة وروسيا والصين خاصة ذات الصفة العسكرية مثل مركز هارب الأميركي السري للتحكم بالمناخ وتحويله إلى سلاح لخدمة أهداف متنوعة الأغراض، ومراكز أخرى مشابهة في روسيا والصين وربما في دول أخرى أجرت تجارب مذهلة في نتائجها، ونفذت أحداثا خطيرة مثل زلزال وتسونامي اليابان وإعصار كاترينا المدمر في الولايات المتحدة وقبل ذلك تسونامي اندونيسيا التي راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر.
الفوضى الخلاقة
رغم كل ذلك يبقى التخبط والفبركة والتخيل في المعلومات والصور والأفلام والفيديوهات أمرا فيه الكثير من الخداع والكذب والتشويه المتعمد الذي يخلق بلبلة غير محمودة العواقب، خاصة عندما يتناول موضوعات ذات علاقة مباشرة بالدين والمعتقدات الخاصة بالشعوب والمجتمعات، وهذا مؤشر على أن هناك جهات خاصة ذات أهداف سرية تتبع لحكومات وإدارات وأجهزة متخصصة في العالم تسعى إلى خلق بلبلة شاملة تستطيع من خلالها نشر الفوضى الخلّاقة التي تتيح لها فرص السيطرة على العالم من خلال التحكم الفكري بمقدرات الشعوب والمجتمعات، وهي المعلومة التي بشرت بها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس كثيرا في بلدان الشرق الأوسط في نهاية فترتها الوزارية، واعتبرتها الحل الأمثل لكل مشاكل بلدان المنطقة وبالتالي مشاكل العالم، كما أنها المقدمة الطبيعية للشرق الأوسط الجديد كما تراه رايس.
الجحيم العربي
لقد كان ابرز ما ولدته فوضى الوزيرة الأميركية الأحداث الدموية في بلدان المنطقة العربية التي أطلق عليها زورا مسمى "الربيع العربي"، ونتج عنها تدمير عدد من البلدان مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق، وتضرر بلدان أخرى مثل مصر وتونس، وتجاوز عدد ضحاياها مئات الآلاف من الأبرياء، وانتشار الإرهاب الوحشي بأخطر أشكاله المتمثلة في العصابات المسلحة الدموية التكفيرية التي ضمت أخطر المرتزقة والقتلة والإرهابيين في العالم، الذين تم استقدامهم من أرجاء الأرض وتمويلهم وتسليحهم للقيام بدورهم الإجرامي.
إن هلوسات الفيسبوكيين صارت فرصا متجددة لأن يطرح كل شخص ما يريد مما يخطر بباله سواء كان ذلك حقيقيا أو مجرد أوهام تدور في رأسه، الأمر الذي يعني أننا أمام ظاهرة تهدد بتشويه كل المفاهيم المعرفية والفكرية والمعتقدات البشرية التي بقيت سائدة لآلاف السنين، بما فيها من ديانات سماوية وميثولوجيا ساهمت في بناء حضارات مازالت شواهد قائمة على عظمة قدرة العقل البشري الذي يتعرض اليوم للتلاعب به من داخله.
لذلك ليس المطلوب أن توضع رقابة مشددة على الانترنت في بلدان العالم لأنه ليس بمقدور أحد أو مجموعة أو دولة أن تفعل ذلك، لكن بالإمكان نشر التوعية الحقيقية البعيدة عن التهويل والتطرف حتى لا تفقد هذه الوسيلة الحضارية الواسعة الانتشار قيمتها وأهميتها، وحتى لا يفقد الإنسان ثقته بالعالم من حوله بما فيه من علم وثقافة ومعرفة وإيمان مطلق نظيف.
تاريخ الإضافة: 2016-03-31تعليق: 0عدد المشاهدات :751