تابعت المعركة الدائرة حول تمثال نفرتيتي الذي شيده أحد الهواه في مدخل مدينة سمالوط بمحافظة المنيا جنوبي مصر، والذي كان مادة ثرية لبرامج التوك شو لفترة، ولتعليقات مستخدمي مواقع التواصل لأخرى. حيث أمعنت التعليقات في السخرية، واتخذ البعض ذلك وسيلة للتباكي على الفن الذي راح، وعلى تاريخ الجدة نفرتيتي الذي شوهه الأحفاد.
ورغم دفاع رئيس مدينة سمالوط عن الموضوع، واعتباره اجتهادا من "مبيض محارة" إلا أن العويل استمر، وكأن الخبر طوق نجاة للصحافة الفاشلة التي لا تمارس عملها الحقيقي في البحث والاستقصاء، ولبرامج التوك الشو التي يجب أن تملأ ساعات البث الطويلة بأي شيء.
وفي خضم العراك الفضائي لم يتطرق أحد إلى المواطن السمالوطي الهاوي الذي ارتكب جريمة تشويه تمثال الجدة نفرتيتي.
تذكرت ما لقيته أنا وعدد من أفراد جيلي في البداية من اتهامات ومحاولات هدم وإلغاء، ولولا الإرادة التي تسلحنا بها لتركنا الشعر والأدب ، وفتحنا صوالين حلاقة .
أتذكر المجهول الذي كان يحرر باب القراء في مجلة "الهلال" في الثمانينات .. كيف كان يرد علينا بجلافة، دون اعتبار كوننا في بداية الطريق، وعليه كان يجب أن يختار أسلوبا أفضل في النقد والتوجيه .
تذكرت كيف سخر ذات مرة من أخطاء الزميل (..) ، وكيف أصبح هذا الزميل الآن أحد كبار النقاد، ولو كان هذا الزميل تأثر بعبارات الإحباط التي كان يواجهه بها الصحفي المعقد الذي كان يحرر الباب، لما نجح وأصبح ناقدا شهرته تفوق شهرة مجلة "الهلال" نفسها.
وبالتقصي علمنا حينئذ أن من يحرر هذا الباب كان الناقد الراحل (...) ، وإن كان أحدهم قال أن من يحرره الصحفي والكاتب الفني (...) .
كلنا تعرضنا في بداية حياتنا إلى الهجوم، والسخرية، ومحاولة التقليل من الشأن، ولكن للأمانة لاقينا أيضا الكثير من الحنو والاهتمام من قامات صحفية وأدبية شجعتنا على الكتابة والابداع والتقدم إلى الأمام . ولكن ما حدث أن الهجوم لم يزدنا إلا قوة، وإصرارا على الاستمرار .
تذكرت ذلك وأنا أتابع الهجوم على أخينا "مبيض المحارة" الذي اجتهد وحاول المساهمة في تجميل مدخل مدينته بتمثال ، فانهالت عليه السكاكين .
أي نعم التمثال الذي أعده أخونا قدم معالجة تعيسة للسيدة نفرتيتي ، وهي معالجة نسميها مجازا كاريكاتورية قد تصلح في مدن الأطفال ، ولكن كان من المفترض أن نحتوي هذه الموهبة ، ونقدم لها النقد والتوجيه ، بدلا من الضرب بالشوم، .. كان من المفترض أن تقدم أكاديمية الفنون منحة فورية لهذا النحات الهاوي لكي يطور موهبته، ويجد الطريق الصحيح، كان من المفترض على وسائل الإعلام أن تبحث عن هذا الفنان المغمور وتستمع إليه ، وتقدم له الرأي الفني السليم، ليتعلم ويتطور، .. ولكن ما حدث سيجعل الأخ يعتزل الحرفة، ويلعلن اليوم الذي فكر فيه أن يجمل مدخل مدينته .
في بعض المدن يتطوع عدد من الشباب لتشييد مداخل المدن بالمجسمات والتماثيل ، ومن بينها كفر الزيات التي قام أحدهم بعمل مجسمات لحيوانات مختلفة ، ورغم تحفظي على المستوى الفني الذي قدمه هؤلاء إلا أن ذلك يبقى في رصيد المجتمع الذي حاول أن يساهم في تجميل مدينته .
ولأن الله "بيسلط أبدان على أبدان" كما يقول المثل، انتقم لمبيض المحارة المجهول سريعا، عندما قام فنان "متخصص" بإعداد تمثال للكاتب الراحل عباس محمود العقاد في مدخل مدينته "أسوان" فووجه التمثال أيضا بانتقادات لاذعة ، حتى أن وزير الثقافة نفسه أمر بإعادة تصميمه ليظهر بالصورة اللائقة بالكاتب الراحل .
المجتمع العربي لديه الاستعداد فطري لقتل أي موهبة . فالناس هنا جاهزون بالسكاكين للإجهاز على كل مبدع ، في الغرب يحتفون بأي موهوب حتى لو كان في السباكة، ونحن ننقض على الموهوبين بمناجل الجهل والحقد والغباء . لذلك نمت تربتهم وطرحت علماء، وخبراء، ورواد فضاء، بينما ظلت تربتنا قاحلة لا تفرز إلا العنف والإرهاب.