إذا أردت توثيق تاريخ الصحافة العربية، والتحولات التي مرت بها ستتوقف طويلا عند عثمان الصيني، وإذا أردت أن ترصد قصة تأسيس الصحافة السعودية من مرحلة النفط إلى التنوير، لابد أن تخصص جزءا لـ "عباءة عثمان" التي تخرجت منها قافلة من الصحفيين، لا تقل أهمية عن قوافل الخريجين الذين تقدمهم الجامعات، وبرامج الابتعاث.
هناك أسماء عديدة قفزت على الكرسي بالحظ، فتعاملت مع الصحافة كـ "مهنة"، فمرت كالريح على البلاط، وهناك آخرون تعاملوا مع الصحافة كـ "رسالة"، فتركوا بصماتهم على صالات التحرير، ورولات المطابع، وأجهزة الآبل ماكنتوش، ومن هؤلاء عثمان الصيني الذي كان يردد دائما "إما أن نشتغل صحافة أو نجلس في بيوتنا"، وكان يراهن دائما بمنصبه لتقديم قيمة صحفية حقيقية.
أدرك الصيني مبكرا الدور الحقيقي للصحافة الذي يتعدي نقل المعلومة إلى التثقيف، والتنوير، والنقد، والتوجيه، والتعليم، وصياغة المستقبل، وساعدته ثقافته الأكاديمية على تكوين منصة معرفية مهمة، فكانت ثقافته مزيجا من القديم والجديد، والأصالة والمعاصرة، فقدم تجربة فريدة للأكاديمي الصحفي.
وعلى مقعد رئيس التحرير أدرك الصيني مبكرا أن "الصحفي" هو الأساس في منظومة العمل الصحفي المتشعبة، فراهن عليه، وقدم له الدعم، ووفر له العدالة، وجعل التقدير المادي والمعنوي خطة سنوية، واعتبر التفاوت الكبير في رواتب المحررين مشكلة متراكمة تستلزم الحل، وسعى إلى الحل المرحلي لها، لأن الإبداع الوظيفي لا يمكن أن يتحقق دون عدالة، وأن الموظف الذي لا يحصل على حقوقه لن يتمكن من الحفاظ على حقوق العمل، فحصد ميزة أخرى فريدة، وهي دعاء العائلات.
ورغم أن بعض رؤساء التحرير استمر في منصبه عشرات السنين، اكتوى الصيني بجمر الصحافة، وأصابه شيء من شوك الوردة، ومرت رحلته بعدد من التقلبات الجوية، وسواء استقال أو خضع لما أسماه قينان الغامدي بـ "التقفيز"، فقد منح ذلك تجربة الصيني زخما دراميا، ومنحه صفة لا تمنح إلا للقليلين، وهي البطل.
قدم الصيني تجارب عدة، أهمها صحيفة "الوطن" العلامة الفارقة في الصحافة السعودية والخليجية، والتي شارك في تأسيسها، وتقلد رئاسة تحريرها لسنوات ، وتمكنت في عهده من أن تكسر قانون السن، وتزاحم كبريات الصحف في الساحة، وتقدم صحافة الرأي، والفكر، والناس، وخصص لها عدة طبعات، ولأول مرة أصبحت المؤسسات تعمل لـ "صحيفة" ألف حساب.
"الوطن" لم تكن مجرد صحيفة، ولكنها كانت مشعلا للتنوير، واكبت الأحداث، وساهمت في صنع بعضها، وكانت مرصدا تاريخيا للتحولات الاجتماعية والسياسية التي مرت بالمملكة والخليج، ووجهة وطن.
تجربة الصيني الصحفية تشبه تجارب مصطفى وعلى أمين، ومحمد التابعي، والأخوين هشام وعلي حافظ، وحمد الجاسر، ومحمد حسين زيدان، وعلى العمير في تجربته الإلكترونية، لأن بها روح الريادة التي لا تظهر إلا كل عدة قرون .
بعد سنوات من الغياب، يعود الفارس عثمان الصيني اليوم إلى فرسه الحرون "الوطن" لتعود الروح إلى الأوراق، والأحبار، ومكاتب المحررين، والحماسة إلى صالة التحرير، وتعود القيمة الصحفية والانسانية، لتمارس دورها الطليعي في خدمة صاحبة الجلالة الصحافة، و"وطن" قدر الله له أن يصنع التاريخ، ويحمي أعظم الرسالات.