25 عاما وأنا أعمل في الصياغة الصحفية، أنحت المادة كما ينحت النحات الصخر بإزميله، فتتحول إلى قطعة فنية نابضة بالحياة، أتأمل المادة أحملها، أرميها، أصفعها، أعشقها، أطعمها، أسقيها، أطرقها، كما يشكل الحداد قطعة حديد صلد بالمطرقة والنار، وأدور قلقا كالعصفور الذي يبني عشه، أبنيها كلمة كلمة، طوبة طوبة ، حتى تصبح بنيانا رائعا في صحيفة.
الصياغة الصحفية كأي مهنة، ولكن المعاني التي تنطوي عليها تجعلها مهنة خاصة، أهمها أنها تؤثر في الناس، فالمراسل يجلب المعلومات، ومع أهمية ذلك، فإن محرر الصياغة هو الذي يشكل هذه المعلومات، ويضعها في الإطار المتكامل، والمناسب، والمشوق، فيجد فيها القارئ المعلومة الصحيحة، والفكرة الصائبة، والشكل المشوق الجذاب.
الصياغة عمل إبداعي في المقام الأول، تماما كصائغ الذهب الماهر الذي يحول سبيكة جامدة من الذهب إلى عقود وتشكيلات جميلة، بمعنى آخر وكما يقول التعبير الشعبي "يعمل من الفسيخ شربات"، ومحرر الصياغة يجب أن يكون مبدعا، قادرا على إبداع مادة صحفية ناجحة مؤثرة.
والمادة الصحفية مثل أي سلعة يجب أن تتضمن العناصر الجاذبة التي تجعل المستهلك / القارئ يقبل عليها، أول العناصر هو الصدق، فالقارئ قد يغفر غياب عناصر كثيرة في المادة الصحفية، ولكنه أبدا لا يغفر الكذب والخداع، لذلك أجمل المواد الصحفية تلك التي تميزت بالعفوية، وعدم التكلف، والقرب من الناس.
والتشويق عنصر مهم من عناصر الجذب في المادة الصحفية، فمهما كانت أهمية الخبر أو المادة فإن التشويق عامل مهم للإقبال عليها، وكم من مواد مهمة نشرت في قالب رتيب فلم تلفت الانتباه، وعلى العكس كم من أخبار ومواد عادية صيغت بشكل لافت فلفتت الأنظار.
ومحرر الصياغة هنا يشبه خبير التسويق الذي يحول سلعة مغبرة تعاني من الكساد إلى منتج يتخاطفه المستهلكون، ويحقق أرباحا طائلة.
ومن السمات التي تجعل الصياغة الصحفية مهنة خاصة، عنصر الإيثار بها، فالمحرر هنا يعمل على مادة يمنحها خبرته وجهده ووقته وإبداعه، وفي النهاية تنشر باسم معدها الأصلي، وإذا نجحت المادة وتفوقت وحصلت على جوائز صحفية، فإن الفائز سيكون صاحبها، أما محرر الصياغة فيظل دائما في الظل يمارس عمله بحب، وود، وإخلاص، وإيثار.
دور مهم آخر لمحرر الصياغة، ففضلا عن إستكمال المادة الصحفية، وتقويمها من الاعوجاج والعوار والنقص، فإن هناك دور يومي يمارسه بأبوية كبيرة، مع عدد كبير من زملائه المراسلين والمراسلات في كافة الدول، وهو تعليم الزميل المراسل وتنمية مهاراته وإمكانياته. من خلال إرشادات ونصائح يومية عن كيفية إعداد المادة الصحفية المتكاملة.
ونظرا لأن لكل مهنة قواعد، فإن للصياغة أساسيات بعضها قواعد عامة، وبعضها قواعد داخلية تتعلق بهوية الصحيفة والسمات التي وضعتها هيئة التحرير، ومع أن القواعد مضامير جري ينطلق محرر الصياغة من خلالها، إلا أنه يتبقى له مضماره الخاص الذي يركض فيه، وهو مضمار الإبداع.
ومع وجود القواعد التي يعمل من خلالها محرر الصياغة، والتي تسجل في "ستايل بوك"، هناك قواعد عامة غير مكتوبة، تتعلق بضمير الصحفي الذي يلزمه بالبعد الأخلاقي الذي يسير جنبا إلى جنب مع البعد المعرفي.
ورغم أهمية الصياغة الصحفية لكونها عنصرا مهما في تسويق السلعة الصحفية لدى القارئ، إلا أن هناك تحديات جديدة أمام هذه المهنة، فمع تطور الإعلام التلفزيوني، وانصراف الكثيرين للثقافة المرئية السهلة. أصبحت الصحافة المقروءة سواء أكانت ورقية أم إلكترونية أمام تحدٍّ صعب.
من هنا من اللازم فتح الباب أمام الاجتهادات الصحفية والتجريب والتطوير، والبحث عن أشكال صحفية جديدة تواكب التغير الهائل الذي حدث، خاصة مع تطور الإعلام الإلكتروني، وانصراف فئة ليست بالقليلة لمتابعة صحافة الإنترنت،. أيضا الانفجار الفضائي الذي حدث في السنوات العشر الماضية التي جعلت الأفضلية والأسبقية للإعلام التلفزيوني الفضائي السريع بما يملك من مزايا وإمكانيات.
وعلى محرر الصياغة العبء الأساسي في ذلك، من خلال تطوير قدراته، وتحسين مهاراته، ليظل دائما قادرا على تقديم مادة صحفية مشوقة، شهية، تشد الناظرين.
محرر الصياغة جندي مجهول يقدم فكره وتعبه وعرقه لمادة، وعندما تنشر يصفق الجمهور لصاحب المادة، أما هو فيقف ـ كوالد العروسة ـ وحيدا وراء الستار، يبتسم، ثم ينصرف للتعامل مع مادة جديدة.