هل رأيت يوما "الزمن" .. أنا رأيته، .. ليس ذلك بالضبط، ولكني رأيت حركته البطيئة المباغتة المرعبة، التي تشبه القاتل الصامت، أو المرض المزمن الذي يزحف ببطء حتى يقضي على ضحيته، لم أره، ولكني رأيت آثاره على الوجوه، والشوارع، والبيوت، .. لقد مر من هنا.
نعم رأيت الزمن في وجوه الأصدقاء التي تشيخ، وتسيطر عليها الأخاديد، .. في الأطفال الذين أصبحوا عواجيز، في الشيب الذي غزا بسرعة الرؤوس، والجلود التي تغير لونها، والعيون التي فقدت حماس الحياة ، والمرض الذي هزم الجميع، .. رأيت الزمن في الكثير من الأقارب والأصدقاء الذين باغتهم الموت بسرعة، فلم أتمكن من أن أقول لهم أحبكم.
كلنا بوسعنا أن نتأمل ونرى الزمن، ونرصد آثاره المدمرة، وندرك حكمة الله، من متواليات الخلق والميلاد، والليل والنهار، والشباب والشيخوخة، والجنة والنار، ولكن للأسف يهمل الكثيرون هذه النظرة الفلسفية المهمة، وتكون النتيجة أن تستيقظ فجأة وتقف أمام المرأة، فتكتشف أنك أصبحت من كبار السن.
إثنان فقط بوسعهما رؤية الزمن أكثر من الآخرين ، المغترب والسائق، .. المغترب لأنه يسافر بعيدا عن بلده، ولا يعود إليه إلا كل عام أو عامين . وقتها يكون لديه الفرصة لجمع صورة بجوار أخرى، ومقارنة صورة بأخرى، للتعرف على التغير الذي حدث ..، ليس ذلك فقط، ولكن تكون لديه فرصة متابعة التغييرات التي أحدثها الزمن على الوجوه والشوارع والتقاليد الاجتماعية.
المغترب فيلسوف رغما عنه، منحه الاغتراب موقع الراصد والمفكر والمتابع لأسوأ دراما إنسانية وهي دراما الزمن . ، وهو يختلف بذلك عن الانسان العادي الذي يتحرك الزمن ويتحرك ويمارس عمله دون أن يلحظ أحد. أما السائق، فهو يشيع كل عام المغتربين إلى المطار، وكل عام يلحظ ماحدث.
تقول رؤية بحثية أن الزمن يمر الآن أكثر من قبل، ربما يكون ذلك صحيحا، لأسياب مناخية أو فلكية، ولكن الحقيقة أن الزمن لم يتغير، ولكن الذي تغير هي أنماط الحياة ، التي تعددت وتشعبت حتى ملأت البئر المغلق، وأصبحت مساحة الهواء الذي يمكن أن تتنفسه قليلة.
الزحام، والتقنية، والفقر، والنزاعات، والحروب، ودرجات الحرارة .. كلها عناصر ساعدت على إشغال الإنسان، وبذلك أصبح العمر أقصر، والأحلام أقل، والسعادة محدودة.
سيقول قائل .. وبماذا تفيد رؤية الزمن، أو عدم رؤيته ، سيقول ـ كما نقول جميعا ـ "يا أخي دع الملك للمالك"، .. أي نعم رؤية الزمن ومتابعة حركته لن تفيد، فهي لن تزيد العمر، أو تغير الأقدار . أو توقف زحف الشيخوخة الحتمي، والنهاية الحتمية وهي الموت، ولكنها في الحقيقة لها ميزة هامة، وهي المراجعة، والنقد، وتصحيح الأخطاء، .. كالمحاسب الذي يقرر فجأة عمل جرد غير مخطط، فيكتشف عجز في الميزانية.
العمر ثروة إنسانية كالمال، والأسهم، والعقارات يجب أن يخضع للمراقبة، والمراجعة، والحسابات، ولكن الثروات المادية يمكن تعويضها، أما العمر فلا ، فالسنوات التي تخسرها لا يعود.
العمر ثروة، والآخرة أيضا، لأن بوسعك أن تعمل وتستثمر للآخرة كما تعمل وتستثمر للدنيا ، فهنا بنك، وهناك آخر، و"التجارة مع الله" أجمل استعارة تبرهن على ذلك.
توقف، وانظر إلى المرأة ، تأمل الشعيرات البيضاء التي بدأت تزحف على رأسك، ومساحة الصلع التي تكبر ، .. توقف وتابع مواكب التشييع التي أخذت في طريقها الأحبة والأصدقاء، الأغنياء والفقراء، الوجهاء والمعدمين، توقف وتأمل حركة الزمن البطيئة المباغتة المرعبة، وقل سبحان الله .