هناك أشخاص يتم استقطابهم بمجرد ظهور أول مغناطيس، وهناك آخرون يسعون إلى أن يتم استقطابهم، كالغانية التي تبحث عن زبون، وهناك فئة تم استقطابها لفترة طويلة من الزمن، وعندما أفاقت، وقررت الاستقلال، فشلت في ذلك، كالمجرم الذي يقرر التوبة، فيمنعه زملاؤه "ولاد الكار"، ويقولون له "الداخل مولود والخارج مفقود"، و"دخول الحمام مش زي خروجه"، وفي المقابل هناك أشخاص يقاومون الأشعة الكهرومغناطيسية المنتشرة في كل مكان، ويتمسكون بمواقفهم حتى لو دفعوا الثمن.
في الماضي كان هناك قطبان وحيدان ، القطب الأميركي، والقطب السوفيتي، اليوم توجد مئات الأقطاب، هناك أحزاب ودول وهيئات تعمل في مجال الاستقطاب، كل منها يدير مغناطيسا قويا يستقطب في فلكه الضحايا والمؤيدين، ويستقطب أيضا ضمن من يستقطب الخونة والجواسيس.
ومع كثرة المغناطيسيات وتنوعها، أصبح الصمود صعبا، خاصة مع الإغراءات الكثيرة التي تصاحب عملية الاستقطاب، بعضها مشروع كالمال، والرحلات العلمية والصحفية والمناصب، وبعضها غير مشروع يصل إلى الرشاوى، والهبات، والجنس.
هناك دول تنفق المليارات سنويا لترويج أفكار دينية، أو سياسية، أو مذهبية، ومستعدة لدفع المال فورا لكل من يساعدها على الهيمنة والتوسع، ونظرا لأن للاستقطاب أهدافه، ولأنه لا يوجد من يدفع المال لوجه الله دون مقابل، فإن عمليات الاستقطاب تنجح، وتظهر تباعا نتائجها الوخيمة.
ونتائج الاستقطاب قد تكون بسيطة كانحياز كاتب أو صحفي لدولة ما، أو اعتناق البعض لفكرة خاطئة، أو مذهب معين، ولكنها قد تتعدى ذلك إلى نتائج أخطر .
هناك أفراد مستقطبون، وأحزاب مستقطبة، وهناك طوائف مستقطبة، وهناك أصحاب مذاهب مستقطبون، وهناك شعوب كاملة مستعبدة تتوالد أجيالا مستقطبة، وهناك جهات تملك أجهزة مغناطيس قوية تجذب أي شيء .. الملاعق والسكاكين وعواميد الإنارة والأسلحة والطرق والمدن والشعوب.
وتعمل في مجال الاستقطاب دول، وشركات أدوية، ومنظمات سياسية وفكرية، ويقع في حبائلها للأسف كل يوم الملايين على مستوى العالم، ومع تزايد الفقر والجهل، تصبح عملية الاستقطاب سهلة، وكلما زاد التعليم والوعي فشلت أجهزة المغناطيس في عملها.
وعملية الاستقطاب تتم تحت عناوين براقة لا غضاضة فيها مثل الصحافة، والاعلام، والرعاية الصحية، والعمل الخيري، والتبادل العلمي، والمنح، ونشر الديموقراطية، وتأهيل منظمات المجتمع المدني .. وغيرها.
والواقع يؤكد أن الكثير من الناس أصبحوا مستقطبين، منهم صحفيون، وإعلاميون، وعلماء، ورجال دين، ومدرسون، وموظفون، وحقوقيون، وناشطون، ويتولى الشخص المستقطَب "بفتح الطاء" الدفاع باستماتة عن الجهة التي استقطبته، والعمل على الترويج لفكرها حتى ولو كانت على خطأ.
قالت السفيرة الأميركية بالقاهرة، أن أكثر من 200 جمعية أهلية مصرية طلبت الدعم من السفارة الأميركية، هذا الرقم الهائل يؤكد أن الكثيرين يسعون لأن يتم استقطابهم، وهو ما يعيدنا للمربع الأول، وهو مناقشة الأسباب الداعية لذلك. حيث تعد هذه الحالة أخطر الحالات، فالسيئ أن يتم استقطابك، ولكن الأسوأ هو أن تسعى بنفسك إلى أن تستقطب.
المسؤولية تقع على عاتق دعاة القيم الجميلة، الذين تركوا السساحة لأصحاب الأفكار الخاطئة لكي يصطادوا كل يوم ضحاياهم، ومن المفترض أن يعملوا في الوقت ذاته على استقطاب الناس، أو على الأقل إنقاذ المزيد من الضحايا من السقوط.
"الاستقطاب" طاعون العصر، عن طريقه انفصلت دول، وعادت دول أخرى 200 عاما إلى الوراء، ومكافحته تتم بالعلم، العلم مصل الوقاية الوحيد الذي يبطل عمل أي مغناطيس.