"كاتارينا" .. صديقة العائلة، فتاة في العشرين من عمرها، أنيقة ذات شعر ناعم يميل إلى الصفرة، رشيقة، خفيفة الظل، تتمتع بعيون ملونة ينطبق عليها قول بشار بن برد:
حواراء إن نظرت إليـ ـك سقتكَ بالعينينِ خمرا
ترتدي كاتارينا ملابس عادية عملية، حيث ترتدي في الغالب بلوزة وبنطلون استرتش –كما يسمونه-، وأحياناً ترتدي بالطو رمادياً أنيقاً، وتقود سيارة ذات موديل قديم، تضع ماكياجاً خفيفاً، هاهي ترافقنا في إحدى السهرات، ترفع كاتارينا ساقيها وتضم فخداها إلى صدرها وهي جالسة على الكنبة فتصير أكثر أناقة. تحمل في يدها موبايل صغير توشوشه من حين لآخر. كاتارينا تدخن السجائر باعتدال، وتحب "الشيشة" أي النرجيلة، أو الآرجيلة، أو الآركيلة كما يكتبها البعض الآخر، وتشرب الكحول ولكن ليس بإفراط، وتدخن الماريجوانا أحياناً، تفتح السيجارة بمهارة، وتمزج الماريجوانا بالتبغ، ثم تضع المزيج مرة أخرى باحتراف داخل اللفافة، وتشعل السيجارة وتدخن بانسجام، ولكاتارينا مواهب في هذا المجال، فهي تسحب الدخان، وتخرجه من أنفها كما تفعل فيفي عبده، كما أنها تستطيع نفث الدخان من فمها بطريقة معينة بحيث يكتب الهواء الطالع كلمة Hallow، هل تصدق ذلك؟.
جلست وقتاً لكي أشرح لها الطقوس الشعبية المصرية في تدخين الشيشة، حاولت أن أشرح لها عبارة (مساء الخير) التي يقولها الشخص للآخر ، وهو ينقل الشيشة له، تأكدت من استيعابها الأمر عندما ناولتني "الشيشة" مبتسمة قائلة Good After Non، لا أدري لماذا توقفت عندها، ربما لأنها نموذج للشباب الدنماركي الآن، بواقعه وأحلامه وطموحاته..
"كاتارينا)" تدرس الآن في إحدى المدارس العليا في كوبنهاجن، تسكن لوحدها في شقة في منزل كبير عتيق، شقتها صغيرة مثل شقق معظم الطلبة، تتكون من حجرتين وصالة صغيرة ومطبخ وحمام، ورغم صغر الشقة إلا أنها أنيقة مرتبة، حجرة المعيشة تحتوي على مكتبة بسيطة مزدحمة بأشكال وأنواع من الكتب التي يغلب عليها الطابع الدراسي، البراويز الصغيرة الأنيقة تملأ الجدران كعادة أهل الغرب، قدمت "كاتارينا" لنا القهوة المعدة على الطريقة الأسبانية، وجلست تتحدث معنا في أمور شتى.
"كاتارينا" مثلها مثل معظم بنات جيلها زارت دولاً شتى، فالشباب الدنماركي محب للسفر بطبعه، فمعظمه سافر للسياحة إلى بلدان أوروبية وإفريقية، مثلاً زارت دهب في مصر، وجنوب إفريقيا، والسنغال، وإسرائيل، وغيرها من البلدان ..، السفر بالنسبة لشباب الغرب ضرورة، ليس كعندنا في الشرق وفي مصر تحديداً، حيث يوجد ملايين من المصريين لم يزوروا الأقصر وأسوان ولو مرة في حياتهم.
في رحلة العودة لاحظت أن نصف الطائرة من الشباب الدنماركي المسافر للقاهرة للسياحة، في يد معظمهم كتب سياحية عن مصر، منهمكين في قراءتها، شعوب مثقفة تعي جيداً أهمية السياحة، والتعرف على الشعوب وحضاراتها المختلفة.
سألت "كاتارينا" عن انطباعها عن مصر، فأخبرتني أنها لم تزر إلا (دهب) وقضت بها خمسة أيام فقط، ولم تزر القاهرة أو أي مدينة مصرية أخرى، وأبدت إعجابها بدهب، ولكنها عبرت عن استيائها من بعض الشباب المصري هناك الذي كان يطاردها، ويريد أن يقيم علاقة معها، أجبتها إجابة مازحة علّي أستطيع التخفيف من غضبها: "Beauty moves heart" أي "الجمال يحرك القلب" بمعنى أنها لو لم تكن جميلة لما طاردها أحد، فابتسمت .. زارت "كاتارينا" إسرائيل عن طريق المنفذ البري في رفح، فاضطرت إلى سؤالها عن رأيها في الإسرائيليين، فقالت أنه شعب يفتقد الذوق، وحدثتني عن الشاب الإسرائيلي الذي دعاها للبقاء في إسرائيل، ووعدها بأن يكون البوي فريند الخاص بها إن هي فعلت ذلك.
ومادمنا نتحدث عن "كاتارينا" فلابد أن نتحدث عن الحب في حياة الفتاة الدنماركية، لنصل إلى أخطر نقطة في الحياة الاجتماعية لهذا الشعب، فعلى الرغم من الرفاهية التي يعيش فيها، إلا أنه يعاني من خلل اجتماعي خطير، فالترابط الأسري مفقود، والالتزام الأخلاقي قليل، والزواج غير مقدس، أي نعم توجد أسر كثيرة ملتزمة بالإطار الأسري المعروف، ولكن الانطباع العام الذي يصلك هو طغيان الفردية، وعدم تقديس الكيان الأسري ككيان اجتماعي عظيم.
الفتاة مثلاً هنا بمجرد أن تشب عن الطوق تستقل عن العائلة، ويصبح لها "بوي فرند" يصادقها ويرافقها ويعاشرها معاشرة الأزواج، تعيش معه لفترة تقصر وقد تطول، قد يقتنع الأثنان، ويكملان هذه المرحلة بالزواج، وقد لا يقتنعان، ويمضي كل منهما إلى حال سبيله..
خلل اجتماعي خطير، والمؤسف أنهم يدافعون عنه ويعتبرونه – وياللغرابة- النظام الاجتماعي الصحيح، على سبيل المثال "كاتارينا" هذه التي أحدثكم عنها كان لها منذ فترة "بوي فرند" من جنوب إفريقيا، تعرفت عليه أثناء قيامها برحلة سياحية هناك، ومن وقتها وهو البوي فرند الخاص بها، وعندما زار الدنمارك عاش معها في نفس الشقة.
حكت لنا عنه، وذكرت أنه كان يجيد الطبخ، وترتيب المنزل، لقد جلس فترةً طويلة بدون عمل، وكانت تعود من مدرستها فتجده قد رتب المنزل وأعد الطعام، وعندما سألتها أين هو الآن ..؟ قالت : "سافر إلى بلاده"، وأردفت لأصل إلى نتيجة ما وقلت مازحاً : (Is your heart busy now) أي "هل قلبك مشغول الآن" فأجابت بالنفي، فأردفت: (Would you let me take a place in your heart) أي "أنا أحب أن يكون لي مكان بقلبك" فابتسمت وابتسمنا معاً.
بعد ذلك أخبرتها أنني أداعبها فقط، وأختبر إنجليزيتي ليس إلا حتى لا تصدق الموضوع، والنتيجة التي كنت أرمي لها من هذا السؤال هو النتيجة الحتمية لمثل هذه العلاقات وهي الفشل الذريع.
وعندما يقابل رجل شرقي مسلم يعتز بدينه وتقاليده هذه الأفكار الشاذة الغريبة فلابد أن يتحول اللقاء إلى صدام وهذا ما حدث فعلاً.
نقاش عاصف حدثت بيني وبين عدد الشباب الدنماركي ومن بينهم "كاتارينا" و"ماريا" ، و "سارة" حول هذا الموضوع، ورغم إنجليزيتي غير المحترفة حاولت قدر الإمكان أن أشرح لهن رأي الإسلام، والأساس الذي وضعه لبناء مجتمع سعيد، وأوضحت لهم الخلل الرهيب الذي يعانون منه، فهذه الفتاة بعد أن صادقها البوي فرند وعاشرها وقضى معها وقتاً، تركها وانتهى الأمر، مثلها في ذلك مثل أي غانية في سوق البغاء، وتساءلت: "أين السعادة في ذلك؟ .. أين الأمان الأسري، أين المستقبل، أين الإطار الصحيح لبناء أسرة سليمة؟".
وكان التيار المقابل شديداً، احتج الحاضرون بأن عقد الزواج لا يجب أن يكون معياراً لأن يعيش رجل مع امرأة، فالحب هو المعيار الهم، وقالوا وقتها أشياء كثيرة، لعل أخطرها وجود نظام لديهم يدعى (السابو) يقنن هذه العلاقات المنفلتة البعيدة عن الزواج، يذهب الرجل والمرأة إلى المسئولين عن هذا النظام، يخبرونهم أنهم يريدون أن يعيشوا معاً، فينظمون لهم هذه العلاقة، قلت: "إذن لماذا لا يكون "الزواج" نفسه هو الذي يقنن هذه العلاقة، أم أنها مجرد الرغبة في الشذوذ عن الركب والناموس الطبيعي للبشر ، والتمرد على القيم والمبادئ؟"، وكلما استمر النقاش كلما لمحت في حديثهم اقتناعاً بما أقول، ولكن .. بصراحة تمنيت لو كنت متعمقاً في الإنجليزية لكي أجعلهم يرفعون الرايات البيضاء