تسجيل الدخول
برنامج ذكاء اصطناعي من غوغل يكشف السرطان       تقنية الليزر تثبت أن الديناصورات كانت تطير       يوتيوب تي في.. خدمة جديدة للبث التلفزيوني المباشر       الخارجية الأمريكية تنشر ثم تحذف تهنئة بفوز مخرج إيراني بالأوسكار       الصين تدرس تقديم حوافز مالية عن إنجاب الطفل الثاني       حفل الأوسكار يجذب أقل نسبة مشاهدة أمريكية منذ 2008       تعطل في خدمة أمازون للحوسبة السحابية يؤثر على خدمات الإنترنت       حاكم دبي يقدم وظيفة شاغرة براتب مليون درهم       ترامب يتعهد أمام الكونغرس بالعمل مع الحلفاء للقضاء على داعش       بعد 17 عاما نوكيا تعيد إطلاق هاتفها 3310       لافروف: الوضع الإنساني بالموصل أسوأ مما كان بحلب       فيتو لروسيا والصين يوقف قرارا لفرض عقوبات على الحكومة السورية       بيل غيتس يحذر العالم ويدعوه للاستعداد بوجه الإرهاب البيولوجي       ابنا رئيس أمريكا يزوران دبي لافتتاح ملعب ترامب للغولف       رونالدو وأنجلينا جولي ونانسي عجرم في فيلم يروي قصة عائلة سورية نازحة      



الإنسان أولًا وأخيرًا


 

فتحية النمر.

العنوان (الرواية الإماراتية من سرد الصحراء والماء إلى سرد الإنسان) هو إشارة واضحة و دلالة أوضح على مجموعة التحولات الملموسة التي طرأت، و ما تزال تطرأ على الرواية الإماراتية نتيجة لظهور النفط والغاز وقيام الاتحاد في عام 1971، فالرواية منذ نشأتها على يد راشد عبدالله وروايته (شاهندة) وهي تواكب ما يحصل في هذا المجتمع من أنماط التبدّل والتغيير .

منذ راشد عبدالله وشاهندة وما تلاه من روائيين وأعمال روائية كان الاهتمام الأبرز عند هؤلاء هو الاحتفاء الجلي بالمكان فقط أولًا عنصرًامن عناصر السرد بشكل عام والرواية بشكل خاصّ أي (فنّيًا ) و(واقعيًّا )حيث السيطرة المطلقة لهذا المكان، والدور الجوهري في تشكيل حياة الأفراد وتسييرها وتنظيمها، وإثباتًا لقوته وبيانًا لتأثيره اللامحدود في كلّ ما يتعلّق بحياة الفرد من أنماط السلوك، وما كان يسير عليها من القيم ومنظومة الأخلاق.

أولًا : المكان صحراء ذات الامتداد الهائل و الفضاء الواسع، لأنّها تشغل ثلثي مساحة الدولة،وذات الإمكانات المادّية المحدودة والخيرات الضئيلة ،هذه (الصحراء) التي كان على الإنسان القديم بذل قصارى جهده وإهدار عمره واستنفار مهاراته وقدراته لمواجهة ما تنطوي عليه من الأخطار، و ترويض قسوتها الزائدة وصرامتها الفائقة والاحتمال على مضض لما اشتهرت به من المراوغة والمخاتلة بغرض الاستفادة القصوى منها، وممّا كانت توفّره بشكل يقيه خطر الموت .

هكذا كان على الكُتّاب التعبير شعرًا و قصًّا و رواية عن العلاقة بين الإنسان ذلك الكائن الضعيف المغلوب على أمره والصحراء، وما أفرزته هذه العلاقة من أحوال وأوضاع وقضايا ومشكلات وظواهر ، كما جسّدها راشد عبدالله في روايته، حيث الإنسان في مواجهة البيئة الكئيبة و المتجهّمة التي لا تعطي سوى الفقر الشديد و العوز الأشدّ و الإخضاع و الإكراه ، و ما وصل إليه هذا الإنسان من مستوى أخلاقي مرير تمثّل في سرقةأكفان الموتى لبيعها .

ثانيًا : المكان ممثّلًا في البحر بوصفه منافسًا أيضًا وندًّا للصحراء في الامتداد و الاتساع، وفي درجة القسوة و الصرامة، إضافة إلى ما زاد به على الأول من تداعيات ، فالبحر وإن كان مصدرًا أساسيًّا للرزق صيدًا أو غوصًا على اللؤلؤ أو تجارة فهو في الوقت نفسه عالم مفتوح على المجهول، يعطي القليل، و يأخذ الكثير، فكان على المبدع الإماراتي الاشتغال على هذه( الثيمات المائية) إن جاز التعبير كصعوبة العيش و الوحدة والترمّل والتيتّم والاستغلال الشنيع من أصحاب المال كالنواخذة للغوّاصين المعدمين الذين كانوا لا يملكون سوى سواعدهم العارية، وكان عليهم أن يرهنوها، ويجازفوا بها في سبيل حلم الحصول على ما يبقيهم وعيالهم على قيد الحياة.

في هذه المرحلة كان البطل في الكتابات الروائية هو المكان الذي كان هو الفاعل بينما كان الإنسان مفعولًا به وواقعًا تحت سيطرته ورحمته.

هنا أطرح سؤالًا أحسبه مهمًّا:

في هذه المرحلة الصعبة من عمر الدولة في (السبعينيات) هل خطر ببال كُتّاب الرواية تحديدًا الذهاب إلى أمداء أبعد، بالخوض والتناول متجاوزين تلك المساحة المحدودة  والهامش المعروف لهم ،كظلم الصحراء وخطر البحر والفقر والحاجة والعوز والضياع والتقشّف متطرّقين إلى الإنسان من الداخل مثلًا؟ والاقتراب من الأعماق الدفينة لقراءة هذه الأعماق، والوقوف على ما تزخر به من معانٍ ومفاهيم كالمخاوف والقلق وغرابة الأطوار ؟

لا أذكر رواية إماراتية في هذه الحقبة اهتمّت بهذه النقطة اهتمامًا جديرًا بالذكر والاعتبار .

بل إنّني أقرّ بأنّهم لم يهتمّوا بهذا الجانب حتى بشكل خجول ، و نحن لا نلومهم، فما فعلوه كان مبرَّرًا ومفهومًا؟

لأنّ الإنسان بحسب هرم الحاجات عند (ماسلو) على سبيل المثال عندما يكون جائعًا و ليس في مأمن ولو بالحدّ الأدنى من الأخطار الخارجية، وليس يحظى بالمسكن النظيف والمستقرّ لن يتحرّك فكره أبعد من هذا المستوى .

هذا الإنسان الذي لم يكن يضمن حاضره لن يفكّر في المستقبل ،بل إنّه سيجد أبواب المستقبل موصدة، ولن يقتحمها، فليست لديه الرغبة ولا الدافع  حين كان يعيش في مجتمع قبلي بسيط بعلاقاته وغير المتصل و لا المنفتح على الخارج رغم وجود نفر ممّن كان لهم ارتباط بالخارج عبر رحلات التجارة البحرية، و لكن في حدود لن يتزحزح من هذه المنطقة .

لكن الدولة سرعان ما دخلت مراحل تالية من النمو والتطور، وسرعان ما تبدّلت أوضاعها بفضل النفط، وما ترتّب عليه من إرسال البعثات التعليمية و الوفود للعمل في الدولة بعد توفّر فرص العمل، فوجد  المجتمع نفسه ينتقل بمن فيه وما فيه تدريجيًّا أولًا ثمّ سريعًا، فأسرع من حالة إلى حالة أخرى من البداوة و القبلية إلى التحضّر و المدنية الشاملة . وطبيعي أن يرافق ذلك تبدّلات مماثلة في الوعي والفكر والثقافة كنتيجة وأثر في أساليب التعبير عن ذلك .

فوجد الكُتّاب أنفسهم أمام مساحة جديدة عليهم تُغري بالدراسة والتعبير ،فالإنسان قد تغيّر ،فهو لم يعد هو، ولم يعد التحدّي الوحيد أمامه ضمان لقمة العيش ،و ما يسدّ الجوع ،و لم يعد يخاف من المكان للأسباب نفسها إن كان صحراء أو بحرًا ،لم يعد ينظر إلى نفسه والآخر كما كان في السابق.

لقد تشعّبت العلاقة بينه وبين نفسه ، واتّسعت الفجوة لديه بين ما هو كائن، وما ينبغي له أن يكون ،بمعنى آخر بين طموحاته المتوسّعة وقدراته  المحدودة ، فوجد نفسه أمام طوفان من المشاعر الغريبة كالإحباط والاكتئاب  من نوع خاصّ وعدم الرضا عن النفس وفقدان الثقة فيها وفي الآخر.

تغيّرت العلاقة بينه وبين الآخر إن كان الآخر المألوف، وكذلك بينه وبين الآخر الغريب ،هذا الآخر الذي وجد نفسه يتّخذ منه موقفًا عدائيًّا تحرّكه التنافسية و الريبة والشكّ بعد أن كانت علاقته بالآخر القريب إيجابية في الغالب، مبنيّة على المحبّة والصداقة والإخاء.

الكُتّاب لسان حال الناس بل هم من هؤلاء الناس أصلًا، تحرّكت أقلامهم تشقّ طريقها صوب موضوعات وثيمات جديدة. لقد أداروا الظهر  للبحر والصحرا ومن ظلّ مهتمًّا بهما، ويرجع إليهما بين الحين والحين من باب الحنين للجذور والولاءللماضي،  فإنّ نوع الاهتمام قد تغيّر كليًّا .

حتى إنّني أقرأ عبارة نقدية توجّه للروايات الإماراتية وهي :

إنّ المكان فيها عنصر باهت وغير فاعل .

فبعد أن كان المكان الصحراء أو البحر بطلًا وفاعلًا، وكان المنطلق والمنتهى أصبح هامشيًّا وربما مجرّد خلفية ومسرح لتحرّك الشخوص بل أرى أنّهما صارا مجرّد زينة .

لقد حصل التشويش في هذه النقطة بالنسبة للروايات  الإماراتية.

بمرور الوقت أصبحت الحاجة إلى دراسة (الإنسان) و الغوص في أعماقه ماسّة وضرورية بغرض اكتشاف طبيعته والوقوف على حقيقته، و ما استجدّ فيهما من مناطق مجهولة .

هذا الاهتمام لم يعد ينفرد به الكتّاب فحسب بل سبقهم إليهم الفلاسفة والمفكّرون والفنانون والإنثربولوجيون .

لسبر أغوار الكائن الذي قفز من مرتبة الخاضع إلى مرتبة المتحكّم في مصيره،  من المغلوب على أمره الخائف من المكان والمرتعب منه إلى مطوّع للمكان والمالك لأمره.

الحقيقة المنشودة ببعديها :

الموضوعي :

متمثّلًا في جملة الإكراهات و الضغوطات المفروضة عليه من القوانين إن كانت طبيعية أو مجتمعية إضافة إلى كونه فانيًا.

والذاتي :

ممثّلًا في الحرّية والتفكير الذي وجد نفسه يتمتّع بهما، و من خلالهما يستطيع اختيار سلوكه .

هناك مساحات أخرى دخلت على الخطّ تخصّ هذا الجانب منها :

إنّه  أصبح يفقد كلّ يوم جزءًا من هذا الحقّ (الحرّية والخصوصية) حين صارت الخصوصية عنده منتهكة ، فلم يعد في إمكانه لو أراد أن يبقى كتابًا مغلقًا ، كما كان عليه الحال حين كان جائعًا وخائفًا .

فهو اليوم مفضوح في كلّ صغيرة وكبيرة من أموره .

بناء على ما سبق  أرى من واجب الكُتّاب وأصحاب القلم والمثقّفين ممارسة الحفر العميق في دواخل الإنسان للوقوف على الطبقات المكوّنة لها . فتركيبة الإنسان تشبه (التركيبة الجيولوجية) المتراكمة فوق  بعضها، و لا يستقيم أمر فهمها جيدًا إلّا بمعرفة جميع الطبقات . و لكن من هو هذا المكلّف بفعل هذا؟

الكاتب الجادّ والمخلص والواعي المدرك جيدًا الدور المنوط به في المجتمع، ليضع قلمه في خدمة الإنسان بهدف إماطة اللثام عن خفاياه، ليأخذ بيده، ويعرّفه إلى جانبه السماوي المتمثّل في العقل، وجانبه الأرضي المتمثّل في الجسد، فبين الجسد والعقل يكمن الإنسان.

هناك نقطة ، وهي أنّنا البشر نرحّب و نفرح بالتسهيلات  و التداعيات الإيجابية التي تقدّمها لنا عملية التطور و التغير والتحول من مثل الوفرة والرفاهية و الأمان المادّي و توفير الجهد والوقت والمال وسرعة تحقيق الأهداف ،
لكنّنا نغضّ الطرف عن الجوانب السلبية الحاضرة بقوة أيضًا في كلّ عمليات التطور أو التحول، ونعني بها الإفرازات و التداعيات التي ليست في صالحنا كالاستخدام غير السليم والواعي لبعض المفاهيم المهمّة المرتبطة بالحياة والنجاح فيها كالحرّية والأخلاق لدى الشباب تحديدًا، و ما يعنيه ذلك كلّه من الحاق الضرر بالأخلاق و القيم التي تربّينا عليها، وبها اكتسبنا هويّتنا .

لقد نعمنا بالأمان المادّي، ولم نعد نخاف من الظلام و لا التيه في الصحراء دونما بوصلة و من هجوم مباغت من الحيوانات والوحوش واللصوص وقطّاع الطرق بعد أن عمّ العمار، وخضعت الصحراء والبحر لسيطرة الإنسان، لكنّنا صرنا نفقد شيئًا فشيئًا أمانًا من نوع آخر .

يتبدّى جليًّا في الخوف المرضي من المستقبل و من المجهول وأيضًا من اللهاث وراء المادّة إلى درجة التضحية في سبيلها بأمور وأشياء لا تقلّ قيمة عنها بل تزيد. .

الأدب مرآة العصر و المكان والإنسان،  وكما أنّ الأديب ابن عصره و بيئته، يتأثّر بها و يتفاعل معها، فعليه أن يتحرّك  ويشحذ همّته ولا يضيّع وقته وحبره وأوراقه في السفاسف والكتابات التي تخلو من الوعي والقيمة، ليكون قابلًا لتحقيق هذا عليه أن يربّي نفسه ويقوّي قلمه وينهل من العلوم والمعارف، ليكون مليئًا، ولديه ما يقوله ويكتبه. فالقلم رسالة وأمانة..

أخيرًا :

الاهتمام بالإنسان هو العامل الأساس وحجر الزاوية في كتابات الكتّاب وفي رواياتهم القديمة والجديدة على السواء، ولكن في كلّ مرحلة كان الاهتمام بهذا العنصر المهمّ مختلفًا عن المرحلة التالية .

في البداية كان الاهتمام بالجسد و الغريزة، أيْ بالإنسان من الخارج، وقد كان هذا منطقيًّا كما رأينا، ولكن الآن أصبح بل يجب أن يصبح الاهتمام بالروح والإنسان من الداخل، بل بداخل الداخل ما أمكن ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* قدمت هذه الدراسة في ندوة "الرواية الإماراتية من سرد الصحراء والماء إلى سرد الإنسان" التي أقامتها دائرة الثقافة في الشارقة في 13 /9  /2021

تاريخ الإضافة: 2021-09-16 تعليق: 0 عدد المشاهدات :779
1      0
التعليقات

إستطلاع

مواقع التواصل الاجتماعي مواقع تجسس تبيع بيانات المستخدمين
 نعم
68%
 لا
21%
 لا أعرف
12%
      المزيد
خدمات