تسجيل الدخول
برنامج ذكاء اصطناعي من غوغل يكشف السرطان       تقنية الليزر تثبت أن الديناصورات كانت تطير       يوتيوب تي في.. خدمة جديدة للبث التلفزيوني المباشر       الخارجية الأمريكية تنشر ثم تحذف تهنئة بفوز مخرج إيراني بالأوسكار       الصين تدرس تقديم حوافز مالية عن إنجاب الطفل الثاني       حفل الأوسكار يجذب أقل نسبة مشاهدة أمريكية منذ 2008       تعطل في خدمة أمازون للحوسبة السحابية يؤثر على خدمات الإنترنت       حاكم دبي يقدم وظيفة شاغرة براتب مليون درهم       ترامب يتعهد أمام الكونغرس بالعمل مع الحلفاء للقضاء على داعش       بعد 17 عاما نوكيا تعيد إطلاق هاتفها 3310       لافروف: الوضع الإنساني بالموصل أسوأ مما كان بحلب       فيتو لروسيا والصين يوقف قرارا لفرض عقوبات على الحكومة السورية       بيل غيتس يحذر العالم ويدعوه للاستعداد بوجه الإرهاب البيولوجي       ابنا رئيس أمريكا يزوران دبي لافتتاح ملعب ترامب للغولف       رونالدو وأنجلينا جولي ونانسي عجرم في فيلم يروي قصة عائلة سورية نازحة      



القطب اليمانيّ عمر عبد العزيز: البحث عن الحقيقة حالة من الدأب والمكابدة لا تنتهي


•    الفلسفة ترحّل في التجريد والفيلسوف يبحث عن المكنونات
•    المعادلة الثقافية العربية صادرة من نبع واحد على رأسه القرآن الكريم
•    الكتب الرومانية منحتني فرصة استثنائية لمعرفة تاريخ وفلسفة الفنون والآداب
•    ظواهر العالم المرئية والمسموعة والمحسوسة تتموضع بجملتها في كتاب إلهي مرقوم
•    الفلسفة سؤال قديم لا إجابة عنه بالمعنى الدقيق للكلمة
•    الزهدية قرينة التصوف والمتصوف ليس لديه ما يخسره، وليس لديه ما يغنيه
•    اللغات نابعة من برنامج واحد ينتظم في العلاقة الثنائية بين الساكن والمتحرك 
•    اللسان العربي تعالى في مقامه ومكانته وجواهره مع ظهور الاسلام

 

 


 

حوار مفتوح يجريه: الأمير كمال فرج.

هناك اعتقاد شائع أن عصر المفكرين العظام قد ولّى، وأن أرض العروبة، بعد جيلٍ ذهبي من الفلاسفة الذين أضاءوا دروبَ المعرفة، كالكندي والفارابي وابن سينا، قد أصابها نوع من الجدب الفكري، وإن كانت لا تزال قادرة على الإبداع الأدبي، إلا أنها عاجزة عن التنوير والتفكير الفلسفي العميق.

ورغم ظهورِ العديد من أصحاب الفكر في عصرنا الحديث، الذين أثروا الساحة بمؤلفاتهم ونظرياتهم ورؤاهم الفلسفية، أمثال محمد عابد الجابري ومحمد أركون وحسن حنفي وزكي نجيب محمود ومحمود أمين العالم، ظلّ المفكر الفيلسوف عملة نادرة.

لكنّ هذا التصور، سرعان ما تبدّد، عندما التقيتُ للمرة الأولى بالمفكر العربي اليمني الدكتور عمر عبد العزيز، واستمعتُ إلى آرائه وأفكاره.

الدكتور عمر عبد العزيز، قطب يماني، وقامة فكرية، فهو كاتب وروائي وفنان تشكيلي ومفكر وفيلسوف، وعالم في التصوف واللسانيات وعلم الجمال، صاحب رؤية فكرية عميقة ونظرية فلسفية في الكون والحياة.

ولد عمر عبد العزيز لأبوين يمنيين يقيمان في الصومال التي كانت حينئذ تحت الاستعمار الإيطالي، وتبعاً لذلك كان عليه أن يدرس في المدرسة الإيطالية، فتوفرت له بذلك روافد ثقافية متنوعة: الرافد العربي الإسلامي، واليماني على وجه التحديد، والرافد الصومالي العربي الإفريقي، ثم الرافد الإيطالي اللاتيني.

على مدى خمسين عامًا، قدّم الدكتور عمر عبد العزيز ما يزيد عن مئة مؤلف في مختلف مجالات المعرفة، من الرواية إلى المقال، إلى الرؤى الفلسفية، إلى النقد والدراسات ورؤى الأدب الشعبي.

ساهم من خلال موقعه كمدير لإدارة الدراسات والنشر في دائرة الثقافة في حكومة الشارقة، في إصدار مئات الكتب، ودعم وتقديم أجيال من الأدباء والمؤلفين.

 

وللدكتور عمر عبد العزيز تجربة صحفية رائدة، ففضلًا عن ترؤس تحرير مجلة "الرافد" الثقافية، أطلق كتاب "الرافد الرقمي" الذي يؤسس للرقمنة الثقافية، وينقل الكتاب العربي من عالم الورق إلى فضاء الإنترنت.

ومن خلال موقعه كرئيس مجلس إدارة النادي الثقافي العربي في الشارقة، يقود الدكتور عمر عبدالعزيز تيارًا ثقافيًا نوعيًا من خلال العديد من الفعاليات الثقافية والفنية التي تستقطب فئات مختلفة من المبدعين، وتساهم في تشكيل وجه الشارقة أول مدينة ثقافية عربية.

يتحلى الدكتور عمر عبد العزيز بسجايا عظيمة، فهو الأستاذ والمعلّم والموجّه، ناشر القيم الجميلة، في أحاديثه المرتجلة ذكاء متقد، وبديهة حاضرة، ومعلومات غنية، وفي رؤيته الفكرية بصمة خاصة، يتميز بحسٍّ عروبيٍّ أصيل.

في هذا الحوار المفتوح ـ الذي يتم تحديثه في إطار الصحافة المفتوحة ـ يتحدث الدكتور عمر عبد العزيز عن مختلف القضايا الفكرية والفلسفية، ويكشف عن الكثير من مشروعه الفكري، ورؤيته المستنيرة التي نحن في أمَسّ الحاجة إليها في هذه المرحلة المفصلية من تاريخنا العربي.
 

 

 

الثقافة اليمنية

* الثقافة اليمنية ثقافة غنية، نسيج نابض بالحياة محبوك من خيوط التقاليد والدين والعادات القبلية، كيف كان تأثير هذه الثقافة عليك؟

ـ الثقافة في اليمن جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية الشاملة، فالحامل اللغوي هو الذي يميز ثقافة عن أخرى، وهو الذي يمنح الثقافة الواحدة شرعيتها البيانية والفكرية، والأصل في المعادلة الثقافية العربية أنها صادرة من نبع واحد على رأسه القرآن الكريم، وكذا المقدمات التمهيدية البيانية قبل ظهور الاسلام، فقد كان الشعر المدوزن، والنثر المسجوع بغنائيات ايقاعية، وكذا النثر المنغوم بالإيماءات الهارمونية، من موروثاتنا الخالدة في لغة العرب السابقة على ظهور الإسلام.

وكان اليمن الجغرافي التاريخي نبعًا خصبًا لتلك الثقافة اللغوية التي حظيت يومئذ بتواشجات لسانية مع (الكوشيتيات) اللغوية التاريخية التي انعكست في الحضارات اليمانية القديمة في سبأ وحمير، وقتبان ومعين وحضرموت.

ولقد تجلت تلك الثقافة في البيان اللساني كما في المستوى الكتابي الذي عكس ميزان الجمال في تلك الروافد اللغوية التي كانت بمثابة روافع خصبة للعربية المعروفة إلى يومنا هذا.

ومنذ ذلك اليوم البعيد تواصلت العربية بثبات فريد قلّ إن نجد له مثيلًا في اللغات المكتوبة، وكنت من المحظوظين باستخدام العربية كلغة خطاب وتواصل يومي في الحارة التي ولدت فيها بمقديشيو، وتعززت خوارزميات التلقي الجمالي من خلال القرآن الكريم والموشحات الدينية النبوية، والاستغراق اليومي في السماع الموسيقي عبر الاذاعات العربية التي كانت تبث يومئذ على الموجات المتوسطة والقصيرة،  كما حظيت بالتعليم الإيطالي الابتدائي الذي مازال يرنّ في أذني كحلم صيف عابر، ذلك أنني تركت الإيطالية عند تخوم المدرسة الأولى والمشاهدات السينمائية المدبلجة باللغة الإيطالية،  وانصرفت إلى التعليم بالعربية والانجليزية، وكانت اللغة الصومالية حاضرة دائمًا بسخاء المكان ومعارج أبعاده، فيما لاحقتني اللغة الرومانية بعد ذلك في مسيرة التعليم الجامعي وما يليه.

 

 

 

الرافد الروماني

* أضافت لك الدراسة في رومانيا رافدًا ثقافيًا مهمًا، حيث درست الاقتصاد في جامعة بوخارست، حدثنا عن هذا الرافد وتأثيره على فكرك وابداعك؟

ـ المرحلة الرومانية في دراستي كانت بمثابة وصل ما انقطع مع اللغة الإيطالية التي تركتها بعد المرحلة الابتدائية، والشاهد أن الرومانية من اللغات ذات الأصل اللاتيني.. مثلها مثل الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية، غير أن الجامع المشترك بين الإيطالية والرومانية يتجاوز حدود المعاني القاموسية للكلمات إلى تخوم التصريف للأفعال، وحتى البناء (الصوت بصري) للجمل،  مما لا نستطيع بسطه في هذه العجالة.

في تلك اللحظة من وصولي إلى رومانيا لدراسة اللغة قبل الجامعة، وجدتني مخطوفًا بالحنين إلى الماضي الايطالي، بل اتقدت في جوانياتي أسرار اللاشعور الكامن في أعماق الدماغ، فإذا بي أتحدث الرومانية خلال شهر من دراستي اللغوية التحضيرية، وأعتقد جازمًا أن السبب في ذلك لم يكن قائمًا عن اجتهاد ومذاكرة، بل عن كامن لاشعوري قرّبني من الرومانية حتى أصبحت بعد سنين أفكر بالرومانية وتجافيني العربية والإنجليزية،  غير أن هذه المعادلة سرعان ما انقلبت رأسا على عقب بعد عودتي إلى عدن، ففي عدن استعدت كامل الموروث القرائي العربي، وتماهيت حقا مع زمن إبداعي ثمانيني مازلت أنا ومجايلي في حنين جارف اليه.

 


أما عن الرافد الروماني في ثقافتي، أختصر القول بالإشارة الى أنني قرأت العلوم الاقتصادية بتنويعاتها كواجب أكاديمي لا مفر منه، ولكن في ذات الوقت ظللت عاشقًا للرياضيات والفكر الاقتصادي وما يتفرع عنهما من علوم، وقد كانت أكثر المحاضرات تشويقًا لي تتمثل في علوم المصفوفات الرياضية، والفكر الاقتصادي، والنظرية النقدية (المالية)، لكن تلك المحطة الجامعية الرومانية كانت فريعًا صغيرًا في مسار عشقي الجارف للفلسفة وعلم الجمال، والمشاهدات السينمائية، وزيارة المعارض التشكيلية، والسماع للموسيقى الاوركسترالية في ذات المكان الذي فيه تنتظم.

الكتب المسطورة بالرومانية منحتني فرصة استثنائية لمعرفة تاريخ وفلسفة الفنون والآداب، وكانت ومازالت ترافقني إلى اليوم، وفيها وجدت الكثير من الترجمات المفقودة في العربية، وخاصة ما يتعلق بآداب التدوين الأوروبي التاريخي.

لكن محطة السبعينات من قرن ما بعد الحرب العالمية الثانية لن تقف، بل ستواصل مفاعيلها مع عودتي لاستكمال الدراسات العليا في تسعينيات قرن الجنون والتحولات العاصفة في كامل المنظومة العالمية الوريثة لجنون حربي التمهيد للقيامة في أوروبا والعالم.

 

 

 

روابط لغوية

*من واقع تبحّركم في اللسانيات، فنون التعبير الأدبية في الأساس واحدة، تغذّت من حبل سري واحد، فما هي الروابط التي لمستوها بين اللغات؟

ـ تنوع اللغات الإنسانية في مساري الوجودي كان أمرًا مرقومًا في لوح الغيب، فقد ولدت لأبوين يمانيين، وتألقت مع لغة جدّتي الصومالية التي كانت الملهمة الكبرى لي، ذلك انها كانت ترتشف رحيق بقائها من الهواء، وتعزف أنغام تروحناتها بالماء، وتسأل عن موتانا، وتخبرنا عن أحوال مسافرينا الغائبين، وتحيل التراب تبرًا ان شاءت، وتتحدث بلغة صومالية منغومة بأداء بوليفوني أوركسترالي، وتجيد السباحة في الهواء إن افتقدت الماء.

كنت أتحدث اللهجة الحضرمية العربية في المنزل والحارة، والصومالية في عموم المجتمع، والإيطالية في المدرسة الابتدائية، وكانت الخوارزميات الشفاهية لتلك الرطانات المتعددة تنتظم في برنامج واحد ووحيد، وكانت كل لغة من تلك الثلاثة تجد لها جسر تواصل ناعم مع الأخريات، وكأنهن نابعات من مصدر واحد، وتلك حقيقة سأتيقن منها بعد عمر مديد.

أعتقد يقينًا بأن اللغات الإنسانية نابعة من مصدر واحد، بل برنامج واحد ينتظم في أساس العلاقة الثنائية الجبرية بين الساكن والمتحرك، هذه العلاقة الثنائية التصادمية ظاهرًا.. تتواشج تعبيريًا، كما تتناغم الآلات الوترية مع الإيقاعات في المعزوفات البوليفونية.

اللغة تصدر أساسا من المقاربات الصوتية الناسوتية، بحيث يمكننا القول يقينًا بأن المشافهة هي أساس الأسس في اللغة، ومن هنا وجه التفريق بين اللغة والكلام، فإذا كانت اللغة حمّالة دلالات بصرية وصوتية، فإن الكلام حمّال كل شيء تقريبًا، وقد حرص عالم اللسانيات الكبير فرناندو دي سوير على بسط معاملتي اللغة والكلام.

مكررًا أقول إن الأصل في اللغة هو الصوت النابع من الإنسان،  وهو بهذا المعنى صادر عن قابليته وكينونته المتكاملة، وإذا افترضنا أن حاستي السمع والنطق عند البشر دالة للاتصال والتلقي معا، فإن هاتين الحاستين ليس بوسعهما تحقيق وظيفة التلقي والإرسال دون بقية الجسد، وكأنهما ميسانان كبيران لعشرت بل مئات وألوف النجمات الأخرى المنتشرة في معجزة الكيان الآدمي، ومن هنا يأتي القول بأن برنامج اللغة المودع في البشرية صادر عن الإله،  وهو برنامج واحد يتوزع في تنويعاته المدارية المطلقة بتعدد الخلق في  خصائصهم المتباينة، وهنا نستطيع إدراك اللطيفة الكبرى في قول القائل:

وبفرق الفرق عرفناه
وبجمع الجمع عبدناه

فالإنسان لا يعرف على الحق الا بعد تشبعه بالتأمل وإدراك كنه الأشياء وجوهرها الأصيل..

الحقيقة أن الفنون كلها قادمة من برنامج ابداعي واحد، وأقصد هنا زمن الإبداع الذي يوحّد كل أشكال التعبير والاتصال سواء كانت لفظية أو لونية أو حركية.. الخ.

الفنون كلها تنطلق من ذات العناصر الفنية العابرة لمألوفات التعبير. أقصد إنها تسبح في فضاء من الملموسات المدركات المرئيات، لكي تصل في نهاية المطاف إلى المجرّدات غير المرئيات والعصيات على الإدراك.

هنالك إذا مستويان للتعبير: المستوى المباشر المقرون بأداة التعبير التي قد تكون أدبية كلامية، أو لونية متبخترة، أو نغمية سياحية في فضاء الأثير، وحتى التعبيرات التي تصل عبر وسائط ذكية كالكاميرا في السينما والمنصة في المسرح.

قلنا إن القواعد الأساسية في مختلف الفنون متمازجة متماهية، وقد تكون طورًا غنائية صادحة بالكلمة كالشعر والسرد، وطورًا لونية في التشكيل والفوتوغراف بأنواعه، ووتريات نغمية في الموسيقى.

بالمعنى الاسكولائي يستقيم فن التشكيل على عناصر الضوء والظل والكتلة المتناسبة والبعد الثالث المنظوري الذي يخادع الرائي غير البصير، وبالمقابل ينطلق الشعر من ثنائية البوح والخفاء، كما القول وضده، والبناء المموسق وأبعاده، وذات القوانين تسري بصورة أكثر تركيبًا وتعقيدًا في المسرح والسينما، فتبدو الفنون المختلفة كما لو أنها فصوص متناثرة لنص واحد، وليس أمام الناقد البصير إلا أن ينظر إليها بوصفها (جمع في عين الفرق).

 

 

 

التراسل بين الفنون

*التراسل بين الفنون واقع أثبتته الدراسات، فمن خلال تجربتكم الإبداعية متعددة التخصصات، وممارستكم أكثر من فن إبداعي، كيف نجحتم في توظيف هذا التراسل؟

ـ في المراحل الدراسية الأولى انخطفت بدراسة الرياضيات، ولم أدرك المنطق الداخلي لهذا الانحراف إلا بعد مرور سنين طويلة، بل عقود من الزمن، حينها تيقنت أن كل ظواهر العالم المرئية والمسموعة والمحسوسة تتموضع بجملتها في كتاب إلهي مرقوم.

تاليًا سأتبين أن المنظومات الإشارية وأبعادها الرقمية والحروفية تخرج من ذات البرنامج الكوني المدوزن حد الهارموني، وإن منظمات اللغات اللونية والحروفية والرقمية والنغمية تحمل ذات القوانين الداخلية، فالغنائية البصرية في الصورة لا تخالف عن الإنشاء الحروفي في النص، والتجريدات الموسيقية النغمية يمكن ترجمتها إلى ألوان وحروف ورقوم وصور، والبناء النمطي لكل نوع من أنواع الفنون يشبه كامل الأغنية الفنية في مختلف أنواع الفنون، وقد أدرك العرب ذلك منذ تسمياتهم المبكرة لمكونات القصيدة،  ففيها عمود وروي وصدر وعجز، وكلها استعارات وصفية للبناء الهيكل بعامة.

 

 

 

الفكر والفلسفة

*كيف ترون علاقة الفلسفة بالفكر الانساني بشكل عام؟، وهل تعتبرون الفلسفة هي القاعدة التي يبنى عليها كل فكر إبداعي؟

ـ سؤال الفلسفة سؤال قديم، يتصل بالوجود بالمعنى المباشر للكلمة، كما إنه يتصل بالوجود غير المرئي في آن واحد، ولهذا السبب كان سؤال الفلسفة مازال سؤالاً لا إجابة عنه بالمعنى الدقيق للكلمة، هو ذلك السؤال الذي لا إجابة له، بمعنى أنه سؤال يؤدي إلى توليد المعاني من المعاني، وتبعًا لذلك فإن الفلسفة هي شكل من أشكال الترحّل في التجريد، أي الترحّل من الملموس المرئي المدرك المعيّن إلى المجرد غير الملموس و غير المدرك وغير المعيّن.

وتبعاً لذلك فإن الفلسفة بطبيعتها تأمليّة، كما أنها بطبيعتها ذات طابع نسبي من حيث المقاربات، ولهذا السبب كانت الفلسفة مازالت تعتني بالكليّات، ويدخل في هذا الباب الماهيّات، كنه الأشياء، ما هو ثاوٍ فيها من معاني، وما هو غائب.

وبالتالي فإن الفلسفة هي شكل يعبّر عن الكينونة البشرية في بعدها الأكثر تجريداً، وفي بعدها الأكثر تقطيراً، وفي بعدها التخييلي، ولهذا السبب فإن الفيلسوف ذلك الذي يتجاوز تماماً كل ما هو ملموس، ويتجاوز تماماً كل ما هو مرئي، ويبحث عن الجواهر والمكنونات في إطار هذه الظواهر.

 


وهذه الجواهر والمكنونات بطبيعتها أشبه ما تكون بجبل الجليد العائم الذي لا ترى إلى قمته، وبهذا المعنى لم يصل العلماء على مدى التاريخ وعلى مدى المدونات التاريخية إلى تعريف قاطع للفلسفة سوى الاشتقاق الكلامي أو الاشتقاق الاصطلاحي الذي يقرن الفلسفة بحب الحكمة كما عند الأفارقة.

ولكن ما هي الحكمة؟، إذا ما تأملنا في المسألة وأكثر، سنجد أن الحكمة ذات طابع ومدلول تجريدي إلى حدّ كبير، ذات طابع ومدلول أخلاقي إلى حد كبير،  وكذلك مدلول جمالي، أي أنها أستيتيكا أيتيكا وليرك باللغة الإفريقية للكلمة بمعنى جمالي، والجمال لا يحده حد، والحكمة هي أيتيكا بمعنى أخلاقي، والأخلاق نسبية، فلكل مجتمع أخلاقياته، ولكل مجتمع طبائعه فيما يتعلق بالتعامل مع القيم والعادات والتقاليد وحتى الشرائع الدينية،  حتى أننا لا نستطيع أن نتحدث عن تسمية معينة في إطار الأديان التي نعرفها، كالقول بالمسيحية وبالإسلام وبأي دين من الأديان إلا باعتباره متعدداً بطبيعته.

فالمسيحيات التاريخية ليست واحدة، وكذلك المسيحيات الراهنة، وهكذا هو الحال بالنسبة للإسلاميات إن جاز التعبير، وبالتالي فإن كل هذه المسائل المرتبطة بالحكمة هي مسائل ذات طابع نسبي إلى حد ما، وهي في آن واحد ذات طابع تجريدي كما أسلفت، وهي أيضاً ذات طابع سديمي، وسديمي بالمعنى الإيجابي للكلمة، بالمعنى الشفاف للكلمة.

 

 

 

تفكيك التعصب

 * للعرب سجايا عظيمة، والشخصية العربية معروفة بالكرم والشهامة والجود وغيرها من الصفات المستمدة من ديننا وتقاليدنا العربية، ولكن في الوقت نفسه هناك مثالب، وأخطر المثالب التعصب، كيف تفككون فكرة التعصب، وما هو السبيل إلى علاجها؟

ـ أولا علينا أن نسأل من هم العرب، في حقيقة الأمر، هنالك كثير من التوصيفات في العرب هنالك من يقول إن هنالك عرب عاربة، وعرب مستعربة، وما إلى ذلك.

والحقيقة أن العروبة قليلة اللسان، مثلها مثل كل قومية على وجه الكرة الأرضية، وهذا اللسان تعالى في مقامه ومكانته وجواهره مع ظهور الاسلام، لكنه كان قد ورث كثيرًا من العناصر الثقافية والعناصر اللغوية اللسانية، والعناصر المتعلقة بطبائع الناس منذ ما قبل الإسلام فيما يسمى بالعصر الجاهلي، فالعرب نابعين من هذه الحقيقة الأزلية، وهذه الحقيقة التاريخية التي كانت على تماثل مع العديد من الثقافات الإنسانية، وعديد من اللغات الإنسانية.

كما هو الحال بالنسبة للغة الكوشية اليمنية في الجنوب وبالنسبة للغة السريانية والآرامية في الشام في الشمال وعديد من اللغات الأخرى، من أجل هذا، لا أستطيع القول أن العربية منبتّة عن اللغات الإنسانية، لكنها جزء من هذه اللغات الإنسانية، وأكثر شمولية بالمعنى الصوتي والمعنى الإنساني والمعنى الهيئوي الكتابي، بدليل أن الأحرف العربية تشمل كل الأصوات المتاحة والممكنة عند الإنسان، لأن البرنامج اللغوي عند البشر واحد والبرنامج اللغوي إلهي، له علاقة بتكوين الجسم البشري ومكوناته.

وتبعاً لذلك فإن الأصوات الصادرة من الإنسان هي كتلك الأصوات الصادرة من سلسلة من آلات العزف الكلاسيكي، فهناك آلات وترية وآلات إيقاع وآلات نفخ، وآلات نقر، وما إلى ذلك، فالإنسان في داخله في جسمه يحمل كل هذه الأبعاد، وكأنه فيما يتحدث يتحدث بلغة بوليفونية متعددة الأصوات، وكأنه بذاته هو فريق كامل للعزف الموسيقي، هذا نوع من التقريب الديني.

فالعربية بهذا المعنى كانت وما زالت تمتلك خصائص صوتية مباينة لكثير من اللغات التي نعرفها على الأقل، مباينة من حيث القدرة على الالتواءات الصوتية المقرونة بالتواءات التهبية كما هو الحال بالنسبة للمد القصير والمد الوسيط والمد الطويل، أيضا بالنسبة للفتحات والكسرات فيما يسمى في الصوتيات الفو كالست. 

الفتحات والكسرات قد تكون فتحة كسرة وضمة، ولكنها قد تكون فتحة مزدوجة كما هو الحال بالنسبة للتنوين على "أن" على سبيل المثال إلى آخره، والسهولة لا أدركها، لا أريد أن أتحدث عن كل حركة من هذه الحركات التسعة التي تتمظهر بوصفها إنبثاقة من الساكن، فلكل ساكن من هذه السواكن التسعة متحركات، وهو أمر غير مألوف بالنسبة للغات التي نعرفها على الأقل الأنجلوسكسونية والفرانكفونية. الصوتيات موجودة في متن الكلمة المكتوبة، ولكن في العربية ليست موجودة في متن الكلمة إلا في الرسم القرآني من باب الحفاظ على التلاوة القرآنية السليمة.

 

 


هذه الخصال والمعاني في اللغة العربية منحت العرب طاقة بلاغية ولغوية، عرضها بشكل حصيف الجاحط وعبد القاهر الجرجاني على سبيل المثال لا الحصر، وعُرضت أيضاً من قبل بشكل مباشر وغير مباشر من قبل علماء اللسانيات الكبار مثل فردينان دو سوسير ونعوم شاوسكي وغيرهم، وبالتالي كانت العربية سبّاقة فيما يتعلم بعلم تأويل النص أو علم الهيمنوتيكا وأساس الكلمة التفسير لكن ليست الهيمنوتيكا هي التفسير، الهيمنوتيكا هو العلم الذي يستأثر بمعرفة كنْه الكلمة من خلال الحرف والكلمة والجملة وما إلى ذلك.

فالعرب لم يكونوا بعيدين عن الحضارات الأخرى، فقد كانوا مثلًا متفاهمين مع الحضارة المصرية القديمة، المأخوذة عن الفكر اليوناني والفكر الروماني البيزنطي. كل هذا كان موجودًا في إطار التقاطعات والتراسلات بين الثقافات المختلفة.. العرب بالمعنى الإثني للكلمة كانوا في الجزيرة العربية، وأغلبهم كان في اليمن، لأن عمق الجزيرة العربية كان في اليمن.

والعرب الذين كانوا في الجزيرة وفي اليمن اكتسبوا الخصال الأخلاقية من طبيعة البيئة التي هم فيها، بيئة البراري المفتوحة تجعل الإنسان أكثر جلداً وأكثر قدرة على التحمل والصبر، وتنعكس هذه الخصال كلها في سلوكياته.

السلوك الفروسي أو البطولي أو السلوك الشجاع له علاقة بالبرية، فهذا الإنسان الذي يتوق ويهاجر في البراري والقفار، ويواجه السباع والضواري ولا يبالي، أيضاً الكرم كانت له علاقة بهذه البيئة، لأنهم كانوا يشعلون النار في الصحراء حتى يرى الغرباء الخيمة، فيأتي الغريب ليجد العون.

هذه الخصال الإيجابية مثل الفروسية والكرم والجود كلها كانت لها علاقة بالبرية، لأن الصحراء قيمة عظيمة، وعندما أتحدث عن الصحراء لست أقصد صحراء الجزيرة العربية بل كل الصحراء، الممتدة من أقصى جنوب المغرب مروراً بكل شمال إفريقيا وحتى مصر، ثم بعد ذلك الجزيرة العربية، هذا عبق الصحراء العربية التاريخي، وبالتالي كل هذه الأمور انعكست على ثقافة العرب وسلوكياتهم.

هناك بعض الجوانب السلبية في ثقافة العرب التاريخية، على سبيل المثال البراجماتية الفطرية البسيطة كما هو الحال في المغنم والمغرم، هذه من الأشياء التي تميز ثقافة البراري إلى حد كبير.

إنسان البرية يجوّز ما لا يجوز أحياناً، وبالتالي هو إنسان لديه قدرة اقتحاميه على فعل بعض الأشياء التي لا يفعلها المديني الوديع، والمشكلة في الشخص، لأن الحضارة مسألة نسبية، والوحشية الكبرى في التاريخ كانت في المدن الكبرى التاريخية، قمة الوحشية كانت في المدن ذات الفجور الأرستقراطي المالي، والاستقرار المقرون بالنهب والسلب إلى آخر ذلك. على كل حال فالحديث عن العرب يطول، هذه بعض الملامح العربية.

 

 

 

ظلم التصوف

*التصوف علم وباب ومعرفة، وقد أسهم في إثراء الثقافة العربية، ولكن هناك ظلم يتعرض له التصوف أحياناً من قبل الباحثين أو من العامة، ما رأيك في هذا؟

ـ أولاً فيما يتعلق بهذا المصطلح فقد جاء لاحقاً على فعل ممارسي تاريخي مديد، أي أن الذين تصوفوا كانوا موجودين قبل ظهور المصطلح ذاته، بمعنى آخر الزهدية والإقلال والتخلّي عن كثير من متاع الحياة البسيطة، كل هذه الأشياء كانت موجودة، وانعكست في سلوكيات الناس، فيمن سمّوا بالبكائيين أحياناً، وأحياناً بالمتطهرين، وأحياناً بالجماعات التي انصرفت لذواتها إلى حد كبير جداً، أو جماعات التهديد الأخلاقي.

ومعنى آخر، كلمة التصوف جاءت لاحقاً على حقيقة ممارسية تاريخية مديدة، حتى أن السيد المسيح عليه السلام كانت تنطبق عليه خصال المتصوف بالمعنى الدقيق للكلمة، وكثير من الأنبياء والرسل، وكثير من الذين كانوا يعيشون في البراري والقفار يمارسون مهن الرعي والمهن البرية المفتوحة، هؤلاء جميعا ينتمون إلى هذا العالم، عالم الزهدية التي قال فيها البوصيري في بردته الشهيرة:

وأكّدت زهده فيها ضرورته
إنّ الضّرورة لا تعدو على العصم

الزهدية قرينة التصوف، ولكن إذا أخذنا بعد ذلك الصوفية تاريخيًا في الثقافة العربية والاسلامية أيضًا، سنجد أن هناك تجليات مختلفة للتصوف، تجليات وصفية، فهناك الصوفي البوّاح كالحلاج، وهناك الصوفي المتطير مثل أبو اليزيد البسطامي، والصوفي الشارع الشامل مثل محيي الدين بن عربي، وهناك الصوفي الغنائي حدّ الاحتياج مثل ابن الفارض، وهكذا دواليك.

فصفات الشطحية والبوحية والغنائية والجمالية كانت مقرونة ببعض المتصوفة اسماً، لكن في نهاية المطاف الجامع المشترك الأعلى بينهم أنهم كانوا يتمرؤون كما لو أنهم متعددين، وهم واحد، فلكي تعرف التصوف لابد أن ترى الجمع في عين الفرد، ولهذا كان الصوفي يقول:

 وبفرق الفرق عرفناهم
 وبجمع الجميع عبدناهم

 

 

 

هذا بُعد، والبعد الآخر في التصوف هو أثر التصوف على الفنون والآداب المختلفة في العالم العربي على وجه التحديد، سنجد أن الشعر العربي تحرّك بالتصوف بشكل عجيب جداً، والأمثلة في هذا الباب لا عدّ لها ولا حصر، الإنشاد بالمعنى الواسع الكلمة، الغنائي في كل أشكاله الشعبية وغير الشعبية تأثر بالتصوف إلى حد كبير، وسنرى أننا إذا تجولنا في كل العالم العربي وحتى الإسلامي سنكتشف كنوزًا إلهية موسيقية بوليفونية جاءت من أصل لغة التصوف، حتى أنني أزعم أن كثيراً من النصوص الشعبية الصوتية كانت ملحونة بطبيعتها،  لأنها تلتزم الروي الساكن، أو روي بالألف أو بالأحرف الهوائية كالألف والهاء وما إلى ذلك، فكانت كأنها تقدم موسيقى ضمنية، وتسهل على الناس أن يتغنوا بها سواء كانوا أحاداً أو ثنائيين أو جماعة، أو إنشاديين .

وسنرى أيضاً أنه فيما يتعلق بالأدب العربي والبلاغة العربية حرّك المتصوفة كثيراً من أوجه البلاغة وأوجه الكتابة وأوجه اللزوميات الكتابية، وما لا يلزم حتى في هذه اللزوميات، حتى أنهم وصلوا إلى شعرنة وموسقة الحرف في ذاته، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.

أريد أن نسترجع معاً الكثير من النصوص التي أحفظها، ولكن هذه كانت واحدة من آثار التصوف في الشعر العربي، ثم هنالك أيضاً الأثر الكبير فيما يتعلق بالكتابات النثرية، ابتداء من السجع مروراً بالنثر المشعْرن إن جاز التعبير، وبالنثر المتفلسف أيضاً إن جاز التعبير، وأمثلتنا في هذا الباب كثيرة أيضاً، من أبو حيان التوحيدي مروراً بالحلّاج في "طواسينه" على سبيل المثال، وفي "بستان المعرفة"، وحتى محمد بن عبد الجبار النفري صاحب "المخاطبات"، وأيضاً الوردي في "لغة النمل".

أنت تتكلم عن جماعة متأدّبة عليمة باللغة وأسرارها، عليمة بالفكر الإنساني، عليمة بما يتجاوز حدود المفهوم الفلسفي والمنطقي للأشياء، حتى أن أبا يزيد البسطامي كان يحاجج الكلاميين آنئذ، ويقول لهم : "أي علم هذا الذي به تحاججوننا أيها الكلاميون"، والكلاميون هم الذين كانوا انطلقوا من التفسير للتأويل بقدر ما، واجتهدوا في تفسير القرآن الكريم، ويقول لهم: "أي علم هذا الذي به تحاججوننا به، لقد أتيت به رسماً عن رسم وميتاً عن ميت. أما نحن فديننا الحي الذي لا يموت".

معنى ذلك أن العلم عند الصوفي قرين العرفان، والعرفان عند الصوفي هو ذلك العلم الذي يأتيك وارداً عن وارد، ويأتيك لا شعوريا أكثر مما يأتيك بالشعور، وهو ذلك العلم الذي يتجاوز حد المعرفة بالمعنى المنطقي والمعنى البرهاني والمعنى العقلي.

ولهذا كانوا يعتقدون أن المعرفة ليست إلا عتبة في الترحل نحو المجهول أو في الترحل نحو الغيوم، وهذه حقيقة وجودية، حتى الفلاسفة الماديين جزء كبير منهم تمتّع أو تحصن بطاقة الميتافيزيقا باللغة الأوروبية، حتى يبرهن على أن المعرفة الحقيقية كامنة هناك، ثاوية في مكان ما، خارج ما ندرك، وما نرى وما نسمع.

 


  ولولا طاقة الخيال لما كان هؤلاء الفلاسفة الكبار، ولما كانت هذه الآداب العظمى التي نعرفها سواء في التصوف أو في كيفية التصوف، وبالتالي هذا هو حديث الصوفية، حديث يطول.

كان للتصوف أثر كبير في الثقافة العربية التاريخية من جهة، وله أثر كبير في التوازن المجتمعي من جهة أخرى، لأن الثقافة الصوفية ثقافة خلاصيه، المتصوف ليس لديه ما يخسره، هذا هو الشيء المهم، ولأنه ليس لديه ما يخسره، فليس لديه ما يغنيه، ولهذا كان الصوفي يقول:

عليك يا نفس بالتسلّي..
العز في الزهد والتخلّي"

 وهكذا كان الصوفي بهذه المثابات، عنده تصالح مع ذاته، وعنده تصالح مع غيره مع الوسط المحيط.

وكان أبا يزيد البسطامي إذا سئل عن ذاته: "عن من تبحث؟"، يقول "عن أبا يزيد"، فيقول أبا يزيد "حتى أنا أبحث عنه منذ عشرين عاماً،"، فهو يقول لك "أنا لا أعرف نفسي لأنني في حالة تبعّض، كما يقول الحلاج: عَجِبتُ لِكِلَيَ كَيفَ يَحمِلُهُ بَعضي، وَمِن ثِقلِ بَعضي لَيسَ تَحمِلُني أَرضي". يقول لك أنا في حالة تبعّض، أنا لا أعرف نفسي، فكيف لك أن تعرفني أيها الإنسان.

وهناك أمثلة كثيرة جداً في هذا الباب تلخص هذه المعاني الكليّة، أورد منها فقط من باب الإشارة ما كان يقوله أبا يزيد البسطامي مجدداً، سئل مرة : "فما ثبتك من الحق يا أبا يزيد"، فقال ـ وعليك أن تتأمل فيما يقوله ـ  "رفعني مرة بين يديه، وهذا تجويز ، فاليد ليست يد ـ ، يقول : رفعني مرة بين يديه، وقال لي يا أبا يزيد إن عبادي يحبون أن يرونك، فقلت له زينّي بوحدانيتك وألبسني أحاديتك، فصرت طيرًا جناحه من الديمومة وجسمه من الأبدية، فطرت في هواء الكيفية مئة ألف ألف عام، ثم في هواء السببية مئة ألف ألف عام، فنظرت، فلم أكن أنا ذاك، ولم يكن هو هناك".

منتهى التخيل، لكن يحمّل هذا الكلام أبعادًا ومعاني كبيرة جدًا، فيقول لك "أنا متجوهر في اللغز ، أنا متجوهر في الغيب، أنا متجوهر فيما لا يُعرف، وإذا كنت كذلك، كيف لي أن أصل إلى مثابة الحق؟، وأين هو الحق؟ والحق يعني أكبر وأشمل من هذه الأشياء.

أعتقد أن هؤلاء الفلاسفة كانوا يحمّلون النصوص دلالات وأبعاد كبيرة جداً، أنا عندي محفوظات ذاتية كثيرة لا أريد أن أكررها، لكنها تعطي مفاتيح لمعرفة هذه الأسرار والسرائر، التي علينا أن نتملّى ونتأمل فيها كثيراً، حتى نعرف أثر هؤلاء الناس على ثقافتنا التاريخية، والإنسانية العامة، لكنني أتكلم عن العربية على وجه التحديد، هذه الثقافة المحمولة بلغة العرب، باعتبارها أمراً ما زال منجماً لم نعرف أسراره بعد.

 

 

الماورائيات

 * لديكم كتاب بعنوان"سلطان الغيب"، وفي أعمالكم دائماً اهتمام بالموارائيات، لذلك أتساءل عن الكشف، وما بعد الحقيقة وما بعد المنظور، هذا العالم السحري، وكما ذكرت أنت هناك منجم فكري لا يعرفه أحد، ما هو السبيل لولوج هذا العالم؟

ـ الحلاج في "الطواسين" تكلم عن الحقيقة، والحقيقة تقريباً كانت مبحث كل الفلاسفة وكل المفكرين وكل المتصوفين وكل الناس يبحثون عن الحقيقة، لكن هناك حقيقة وهناك حقيقة الحقيقة، هناك ما يستعصي على المفهوم، وبالتالي البحث عن الحقيقة هو حالة من الدأب والتنكّب والمكابدة التي لا تنتهي، فالحقيقة غائصة في مكان بعيد، ولهذا السبب كل السير الذاتية التي وردت في الآداب الصوفية على سبيل المثال كانت تبحث عن هذه الحقيقة، كما هو الحال بالنسبة لفريد الدين العطار في "منطق الطير"، وكما هو الحال في "رسالة الطير" للإمام الغزالي، وبالتالي كان الطير هذا رمز لذلك الذي يهاجر ويغترب، ويقطع الفيافي والبراري والقفار، بحثاً عن هدف، الجزء الأكبر منهم يموت في الطريق، والطير الممنوح هو الذي يصل.

لكن هذا المعنى الرمزي لهذه المسألة هي أننا نحن جميعاً في حالة ماراثون حياتي، في حالة ماراثون وجودي، نحن محبوسون في إطار هذا الماراثون، نجري ولا ندري إلى أين نذهب؟، ولكن في حقيقة الأمر الغالبية تتساقط في الدرب، وهنالك من يصل، والواصلون قلة، وهم يصلون بطاقة الروح وليس بطاقة الجسدانية، ولا بطاقة الإمكانيات ولا يحزنون، وبالتالي هؤلاء الذين يصلون إلى الهدف يقتربون من الحقيقة إلى حد ما.

وقد وردت في طواسين الحلاج " طواسين الحقيقة، إذن البحث عن الحقيقة كما كان يقول الإمام  محمد بن حامد الغزال في جزئية من كتابه الكبير "إحياء علوم الدين" كان يتكلم عن كيفية التكشف على الأشياء المجهولة، فكان يقول بما معناه : "ألا ترون أن الطفل الصغير عندما يرى حرفاً ويقال له هذا الحرف حاء باء تاء ثاء يراه بعينه ويسمعه بصوته، ثم يرى كلمة فتُقرأ له الكلمة، فيعرف شكل الكلمة المجملة، ولا يعرف تجريداتها الأخرى، ويعرف صوتها، فيعرف الكلمة، فإذا به ينفتح على عين جديد، وهي أن هناك جملة، فتفسر له هذه الجملة فيفهمها، ويحفظها عن ظهر قلب، فينفتح له هذا الغيب الثالث، ثم بعد ذلك يقع فيه غيب أكبر وهي العبارة بكلها أو الآية بكلها أو الرسم بكله، فهكذا يكون الصوفي في حالة ترحل في الغيوب، هذه الترحّلات في الغيوب هي تعبير حقيقي عن أن المعرفة ليست موجودة بالكلية والمطلقة، المعرفة هي الموجودة بشكل جزئي وبشكل متاحات، ولهذا كان يقول الحلاج :

لِلعِلمِ أَهلٌ وَلِلإيمانِ تَرتيبُ
وَلِلعُلومِ وَأَهليها تَجاريبُ
وَالعِلمُ عِلمانِ مَطبوعٌ وَمُكتَسَبُ
وَالبَحرُ بِحرانِ مَركوبٌ وَمَرهوبُ

ـ وكان آخر يقول:

العلم علمان علمٌ يستضاء به
علم الحدود وعلمً يكشف الحجبا

 

 

 

 فالمتصوفة كانوا يعتقدون أن العلم الحقيقي هو ذلك الذي يكشف والعلم اللادنّي الذي يكشف الحجب، والذي ينطبق عليه الآية الكريمة "قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِۦ مَدَدًا ".

وهناك أيضًا "الله نور السماوات والأرض"، وهذه واحدة من الأشياء الحديث عنها يمكن ألا يتوقف، وكذلك الآية "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة"، إذن التكشفات هي حالة انبجاسات غيبية مترافقة مع حياة الإنسان، تنجلي بشكل أخص بحسب كلامنا المعرفي أو الأبستمولوجيا العصرية بالمنامات والرقاد الطويل وفي حالة الغيبوبة.

نفس الكلام بالنسبة للمتصوف، لأن المتصوف يتناوب حالة الصحو والسكر، ليس السكر بالمعنى الخمري للكلمة، ولكن السكر بالمعنى الطبيعي للكلمة، فهو يعيش حالة تراوح ما بين الصحو الكبير والسكر الكثير، فلا يدري كيف يخرج من هذه الدائرة دائرة الصحو والسكر؟.

يقول أحدهم: "وكنت على الحالين أصحو وأسكرُ"، وبالتالي يعتقدون أن هذه التكشفات هي منن إلهية تأتي الإنسان في لحظات غير مدركة أو لا واعية، وحتى في لحظات مواجهة خطر غير متوقع، كل هذه الأشياء تحرّك هذا الدينامو الداخلي، والمحرك الداخلي الكامل الذي يتحرك في لحظة ما فقط، وهو يخرج عن طريق الوجود الموجود، هو وجود أنتولوجي بمعني أخر وجود موجود ووجود غائب في نفس الوقت، ينعكس في الإنسان وفي دماغه، ولكن عن طريق الدماغ الأصغر وهو دماغ لاوعي الذي يقابل الرام أو الذاكرة في الكمبيوتر.

والرام عبارة عن محرك البحث العشوائي ـ يسمونه هكذا ـ  لماذا؟، لأن الرام هو الذي يحل مشكلة البروسيسر أو المعالج، إذا عجز عن فك الشفرة، الرام كامل ولا يعمل شيء، يعمل فقط عندما يعجز المعالج، فيحرّك المعالج، وهكذا هو الإنسان اللاشعور واللاوعي هو المحرك الأساسي للإنسان.

  وهذه المسائل أدركها المتصوفة وكتبوا عنها بسخاء عظيم، وأذكر في هذه المناسبة كتاب للإمام محمد حامد الغزالي بعنوان "كيمياء السعادة" يتحدث فيه عن مخلوق الإنسان، ما هي الخسارة التي تميزه؟، وكيف يمكن لهذا الإنسان أن يسيطر على ذاته؟، على الوسط المحيط به دون أن يبدي أي شكل من أشكال القوة المألوفة، وهو شكل من أشكال السيطرة التقليدية المادية.

 

 

 

جدل الفلسفة

* ظلت الفلسفة لسنوات طويلة في ثقافتنا العربية تعاني من سوء الفهم وعدم المعرفة، رغم أنها بحر وعلم من علوم الإنسانية، وبعد جدل طويل ظهر مصطلح توفيقي هو الفلسفة الإسلامية، ما رأيك في هذه الجدلية؟، وما موقع الفلسفة الحقيقي من الثقافة العربية؟

 الفلسفة بحسب التدوير التاريخي مجيّرة على الإغريق، لكن هذا تدوير لا يمكن الأخذ به بالكليّة، لأن هنالك فلسفات إنسانية كانت موجودة في العمق الآسيوي، وفلسفات إنسانية موجودة في العمق الإفريقي، وموجودة في كل العالم، بمعنى آخر، الوجود هو الذي يحدد ماهيّة الفلسفة، الوجود قرين التعامل مع المجهول، قرين الخوف المرضي، الفوبياوي، قرين عدم القدرة على التفسير، قرين بالاقتراب التراحلي في أحوال الوجود، على طريقة قصة إبراهيم الخليل عليه السلام الذي رأى القمر ورأى الشمس، حتى يصل للتجريد الأقصى، بأن هناك إله في كل هذه الأشياء العابرة.

فبالتالي كانت الفلسفة قرينة وجود الإنسان أصلاً من أساسه، لأن الإنسان وجوده مقرون بالسؤال، ومقرون بالبحث، ومقرون بالعجز عن التفسير، ومقرون بالخوف، ومقرون بالفرح، ومقرون بعوامل كثيرة جداً.

كل هذه الأشياء التي خلقت عنده ما يمكن أن يسمى بذلك السؤال الذي لا إجابة له، والسؤال الذي لا إجابة له هو سؤال فلسفي، أي أنه سؤال متافيزيقي، سؤال مخيالي، وهكذا هي الفلسفة، لكن خارج هذا الإطار إذا وقفنا على المدونة التاريخية بالنسبة لنا نحن العرب تأثرنا بأرسطوطاليس بشكل كبير جداً، خاصة بعد الترجمات والأبحاث الضافية التي قدمها، وخاصة عند ابن رشد. كما تأثرنا بالأرسطوطاليسية اليونانية القديمة التي تأثرت بدورها بالفلسفة المصرية القديمة، وهذا مهم جداً.

وبالتالي لم نكن بعيدين عن الفلسفة الأسيوية، بدليل أن بغداد كانت جسر العلاقة الذي يربط بين الشرق والغرب آنئذٍ، كما كانت مصر جسر العلاقة التي تربط بين المتوسطية النوردية الشمالية وبين المتوسطية الجنونية، وهكذا دواليك، وبالتالي كانت المسألة تحول في هذا الفضاء، في فضاء التفاعلية الانسانية الكبرى.

العرب في هذا الباب كان بهم تموضع تاريخي في شمال أفريقيا وفي شبه الجزيرة الإيبيرية، وفي عديد من الجزر في البحر العربي المتوسط، وفي الشام، في الجزيرة العربية بطبيعة الحال، لكن العروبة بالمعنى الأكثر شمولا، بالمعنى الأنثروبولوجي كانت موجودة خارج نطاق هذه الجغرافية المكانية التي نسميها اليوم الجامعة العربية.

الجامعة العربية لا تُعبِّر عن الكنه الحقيقي للأنثروبولوجيا التقليدية العربية، لأن اللغة العربية موجودة في تشاد وإريتريا وتنزانيا وكونغو ومالي إلى آخرها، وفي آسيا بنفس الكيفية، بمعنى آخر الخارطة اللغوية العربية أشمل بكثير من خارطة الجامعة العربية.

هذه الخارطة اللغوية العربية مستغورة في الدين وفي التصوف وفي السلوك، ليست قشرة عليا، هي جزء من النسيج التقافي في هذه الأماكن.

إذن هكذا كانت هي الفلسفة، لكن إذا أخذنا الموضوع وفقاً للبعد التاريخي، يمكننا أن نقف على محطة إبن رشد، ومحطة محمد بن حامد الغزالي، بالمناسبة البعض يسيء فهم رفض الغزالي للفلسفة، الغزالي لم يرفض الفلسفة، رفض الفلاسفة، تهافت الفلاسفة وليس تهافت الفلسفة، كان يقصد بتهافت الفلاسفة الذين يناظرهم ويقارعهم في حجتهم، وهذا أمر يجوز في كل الأحوال، لكنه لم يكن يتكلم عن الفلسفة بسوء، لأنه بذاته متفلسف كبير، هو بذاته تساؤلي، وهو بذاته اجتهادي، يكفي أنه كتب "كيمياء السعادة" و"رسالة الطير" على سبيل المثال لا الحصر.

ابن رشد كان محطة فارقة فيما يتعلق بالاستبطان الكلي للثقافتين اليونانية القديمة والهيلينية الرومانية اللاحقة، وتبعاً لذلك أيضاً بالنسبة للثقافة الدينية التي كانت مترافقة مع هاتين الثقافتين، وكان هناك جدل بيزنطي حول العلاقة بين الحقيقة والشريعة، الحقيقة كانت تعني الفلسفة باختصار شديد، والشريعة الدين، فهو كتب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة، وقام بعمل معرفي ثوري كبير.

قال إن الشريعة والحقيقة لا يتناقض، بل يرتقيان عند تخوم الفضيلة، وإن لم تقم الفضيلة الهدف المشترك لهما فإن هنالك تناقض، وبهذا الشكل مهّد ابن رشد لفلسفة عصر التنوير في أوروبا، ابتداء من مارك روثر الأول بفلسفة الإصلاح الكبرى، مهّد لها بهذه المقولة، ومن عجائب التاريخ أن الثقافة الإنسانية كانت مرتبطة باللغة العربية في أوروبا.

ما من مثقف ولا كاهن ولا حاخام إلا ويكتب العربية ويجيدها، تاليًا كانت هناك محطة مهمة جدا الفيلسوف الكندي، الكندي أيضًا من الذين قدموا عطاء كبير جدًا، وكان له حضور كبير في هذا الباب.

 

تاريخ الإضافة: 2025-02-03 تعليق: 0 عدد المشاهدات :388
3      0
التعليقات

إستطلاع

مواقع التواصل الاجتماعي مواقع تجسس تبيع بيانات المستخدمين
 نعم
69%
 لا
20%
 لا أعرف
12%
      المزيد
خدمات