الأمير كمال فرج
الشعر الشعبي هو نبض الأرض وأنفاس الناس، وثمرة العبقرية البدوية التي غزلت من اللغة العربية العديد من اللهجات المعبّرة الموحية، التي تثري اللسان العربي، وتحلّق في فضاءات الإبداع.
وللشعر الشعبي تأثير كبير في حياة الناس، فهو الأقرب إلى البيئة، والحياة اليومية، والعادات والتقاليد، واللغة المحكية الدارجة، وقد أثمر هذا الشعر أكثر من 42 نوعًا من الشعر مثل الزجل، والشعر النبطي، والموال، والعتابا، والشروقي، والحداء، والدارمي والزهيري والأبوذية، وأفرز لنا أيضًا "الأغنية" التي تملأ الهواء الذي يحيطنا، والتي لعبت دورًا مهمًا في تشكيل الوجدان العربي.
ورغم أني لا أحبّذ المقارنة بين الفنون الإبداعية، يمكن القول أن الشعر الشعبي تفوّق في بعض المراحل على الشعر الفصيح، وفي الوقت الذي تراجعت فيه القصيدة العمودية، ونشبت حرب البسوس بين القديم والجديد، والأصالة والحداثة، استمر الحس الشعبي في تطوير أدواته، وحصد المكاسب، وتقديم القصائد الجميلة التي تهزّ المشاعر وتنتزع من المستمعين كلمة "الله".
وأقدم نماذج الشعر الشعبي ظهرت في الجزيرة العربية في القرن السادس الهجري، وأورد ابن خلدون في مقدمته، عينات من قصائد بدو بني هلال، ونبه إلى أهمية دراسة شعر البدو، وفي العصر الحديث بدأت صحافة الشعر الشعبي بشكل مزامن للصحافة الثقافية، ولكنها سرعان ما اختطّت لنفسها طريقًا خاصًا بظهور المجلات التي تعني بالشعر الشعبي، والتي ازدهرت في الستينات، مع تشكّل العامية المصرية على أيدي رواد مثل صلاح جاهين وفؤاد حداد وعبدالرحمن الأبنودي، واستمر الرسم البياني لهذه المجلات في صعود وهبوط وفقا لعوامل مختلفة.
ومع ازدهار الصحافة الورقية في التسعينيات، ظهر عدد من المجلات التي تعني بالشعر الشعبي، مثل "قطوف"، و"المختلف"، و"فواصل" والتي حققت رواجًا كبيرًا، ورفعت الشاعر الشعبي إلى مصاف نجوم السينما، حيث تصدر شعراء شعبيون ـ لأول مرة ـ مثل مساعد الرشيدي وطلال الرشيد وخالد المريخي الأغلفة، ولكن لأسباب مجهولة انحسرت هذه المجلات، فكانت أشبه بومضة سريعة وسط الظلام.
وظلّت الصحافة الشعبية بعد ذلك طفلة تائهة، تبحث عن أسرتها، حتى تنبهت دائرة الثقافة في الشارقة لأهمية وجود مجلة تعني بالشعر الشعبي، فأصدرت عام 2019 مجلة "الحيرة"، وسميت بهذا الاسم تخليدًا لذكرى عدد من الشعراء الشعبيين نشأوا في منطقة الحيرة القريبة من الشارقة.
في سنوات قليلة، أصبحت "الحيرة" مجلة الشعر الشعبي الأولى في العالم العربي، حيث تميزت بانفتاحها على التجارب الشعرية في كافة بقاع الوطن العربي، والاهتمام بالدراسات النقدية، والبحث والتحليل، وطرح القضايا الخاصة بهذا اللون من الشعر، وتقديم الشعراء الجدد، وهو ما جعلها منبرًا للشعراء الشعبيين من كافة الدول العربية.
ولا شك أن نجاح مجلة "الحيرة" يقف وراءه مجموعة من الأشخاص، في مقدمتهم الباحث والناقد والصحفي الكبير محمد عبدالسميع يوسف، الذي يرجع له الفضل في تشكيل الهوية التحريرية الخاصة بالمجلة، والتي كانت كلمة السر في نجاحها وانتشارها.
ومحمد عبدالسميع يوسف باحث وناقد وصحفي مصري مقيم في الشارقة عاصمة الإبداع العربي، عمل على مدار رحلته الصحفية في عدد من الصحف الإماراتية، وهو يعمل حاليا بصحيفة "الإتحاد" التي تصدر في أبوظبي، وهو سكرتير تحرير مجلة "الحيرة" التي تصدر عن مجلس الحيرة الأدبي، التابع لدائرة الثقافة في الشارقة.
أصدر عبدالسميع العديد من الكتب البحثية والنقدية، وساهم في جمع وإعداد عدد من دواوين كبار الشعراء الشعبيين، ومن أبرز إصداراته : "القصيدة الشعبية .. هوية وطن"، "رؤية القصيدة : عوشة .. دراسة في الإيقاع واللغة الشعرية"، "رواد التنوير في الشعر الشعبي 7 : ريم البوادي - راشد شرار - محمد بن رضوة : أبحاث ودراسات"، "القصيدة الشعبية .. وجدان أمة"، "ملتقى القوافي : شعراء من السعودية والأردن"، "من رواد الشعر الشعبي في الإمارات : العميمي - الشريف - كلثم : أبحاث ودراسات"، "الطب الشعبي في الإمارات"، "من رواد الشعر الشعبي في الإمارات : ابن قطامي ، ابن ذيبان ، سلوان : أبحاث ودراسات"، "صقر بن خالد القاسمي عوالمه ومناخاته الأدبية والشعرية"، "القصيدة الشعبية .. ذاكرة وطن : بن سوقات - كميدش - قمرة"، "ناصر الكأس : رحلة مع التراث البحري الإماراتي"، "جمعة بن حميد : ذاكرة حية بين البر والبحر"، "تراث الجبال : عرض لبعض العادات والتقاليد ومظاهر الحياة في البيئة الجبلية"، "بيت الألعاب والأهازيج الشعبية".
تشرّب عبدالسميع ـ الذي عاش منذ مطلع شبابه في الإمارات ـ البيئة الشعبية الإماراتية التي تتميز بالثراء والتنوع، وعشق تراثها الشعري الذاخر بالصور الإبداعية، فخصص كل وقته لدراسة الشعر النبطي، وإظهار الكنوز المخبأة فيه، وتأسيس صحافة متخصصة تعبّر عن هذا التراث الشعري العظيم، يشبه في ذلك "الطوّاش" وهو تاجر اللؤلؤ الذي يتنقل بين سفن الغوص في مواقع صيد الأسماك لاستخراج اللؤلؤ من أعماق البحار.
وعلى الصعيد الانساني تميز محمد عبدالسميع بالخلق الرفيع، والأدب الجم، وهو من الأشخاص الذين تلمس فيهم رهافة الكاتب وأمانة الباحث ومهنية الصحفي.
تحية تقدير إلى الشاعر والباحث والصحفي محمد عبدالسميع الذي يدير هذه الملحمة الصحفية بجدّ واقتدار من مكتب مجلة "الحيرة" الواقع في الدور الثاني من مقر دائرة الثقافة، الواقع في منطقة "الليّه" في الشارقة، يعاونه في ذلك الشاعر المبدع ناصر الشفيري، صديقه في مهنة الطواشة الصحفية، ومنذ الصباح الباكر يبدأ الإثنان هوايتهما المفضلة .. الغوص في بحار الشعر الشعبي، واستخراج أجمل اللآلي، وتقديمها في مجلة قشيبة غنية كل شهر.