الأمير كمال فرج.
للعشق أنواع ودرجات وأحوال ومراحل، حاول تعريفها وتحديدها الحكماء والفلاسفة على مر التاريخ، وعبر عنها المبدعون من خلال فنون التعبير المختلفة، وبينما استأثر الحب الإنساني جل الاهتمام، هناك نوع مهم من العشق لم يحظ بالاهتمام الكافي، وهو عشق المدن، فللمدن عشاقها، وللأمكنة متيمون بها، يفرحون فرحة الطفل عند زيارتها، ويذرفون الدموع عند الفراق.
وهذا ليس غريبا فقد كان للمكان مكانة عظيمة لدى الشخصية العربية، وكان الشاعر العربي يقف على أطلال المحبوبة، ويتلمس فيها رائحة العشق والذكريات.
هذا العشق كان المحرك الأساسي للشاعرة والروائية الإماراتية القديرة ميسون صقر القاسمي في تأليف كتاب "مقهى ريش ..عن على مصر"، الذي صدر مؤخرا عن دار نهضة مصر.
ولكن في هذه الحالة لم تكتف ميسون ـ الشاعرة والروائية المبدعة المحملة بمسؤولية وقيم الابداع ـ بالحب والامتنان للقاهرة التي تعيش فيها منذ الستينات، وتضم أماكن النشأة والذكريات، ولكنها بادرت ـ بإحساس عفوي ـ بالحفاظ على جزء مهم من تاريخ مصر والذي يختزنه "ريش"، المقهى القاهري التاريخي الذي كان شاهدا على الكثير من الأحداث والأشخاص والتحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي شهدتها المحروسة على مدى قرن من الزمان .
فقد بدأت قصة الكتاب ـ كما علمت ـ باطلاع ميسون على العديد من الوثائق التي تؤرخ لتاريخ مقهى ريش، وإدراكا منها لأهمية هذه الوثائق التي هي جزء من تاريخ مصر وتاريخ العرب والإنسانية، وخوفا عليها من الضياع، قامت بحفظها رقميا على قرص مضغوط، قدمته إلى ملاك المقهى، واستأذنتهم في الاحتفاظ بنسخة منها، ثم تولدت لديها بعد ذلك فكرة تأليف كتاب عن المقهى / الرمز يضم هذه الوثائق النادرة، والتي تؤرخ لفترة مهمة من تاريخ مصر الحديث.
ورغم الحب، حرصت المؤلفة على مراعاة قواعد البحث والتأليف في الكتاب، فكانت تعمل في الداخل على الوثائق والمعلومات، ثم تخرج لتلقى نظرة من الخارج، وهو ما منح الكتاب الموثوقية القاعدة الأساسية لكل كاتب، وجعل الكتاب بالفعل كما نص العنوان "عين على مصر".
استهلت ميسون كتابها باستهلال جمعت فيه مصطلحات العيون، وهي "مقهى ريش عين على مصر، والعين عليها حارس، وعين الحسود فيها عود، وقولوا لعين الشمس ما تحماشي، وعيني يا عيني على الولد، وعين شمس، وعين الصيرة، والعين السخنة، وعين السلسبيل، وعينيه بتدمع وقلبي بيبكي، وعين حورس، وعين الحقيقة، وعين الحياة، وأنف وثلاث عيون، وعيون موسى، ومجرى العيون، وعيون القلب، وعيون بهية...".
بهذا الاستهلال البديع كشفت ميسون ـ التي كتبت في مرحلة ما أشعارا باللهجة المصرية ـ عن إلمام كبير بالثقافة الشعبية المصرية، ومعرفة الخلفيات الثقافية والاجتماعية للمصريين، وهو ما منحها القدرة على تقدير قيمة ما تملكه من وثائق أولا، ثم سرد انعكاسات هذه الوثائق، وما تقوله وتبوح به هذه الأوراق التاريخية الصفراء التي تعاقب عليها الزمن.
على مستوى البحث والتأليف، يعتبر الكتاب بما يضمه من توثيق ورصد وتفصيل ومعلومات تنشر لأول مرة أهم عمل تأريخي توثيقي عن القاهرة صدر في السنوات الأخيرة، وعلى مستوى الابداع، الكتاب يجسد مسؤولية المبدع في الحفاظ على القيم الجميلة.
وعلى المستوى الشخصي، يعتبر الكتاب إضافة جديدة للشاعرة ميسون صقر القاسمي متعددة المواهب والقدرات ـ والتي لها إنجازات مهمة في الشعر والرواية والفن التشكيلي ـ في عالم البحث والتحقيق والتأريخ.
والأهم بالنسبة لي ما يجسده الكتاب على المستوى الانساني، لأنه مفتاح كل المستويات وكل القيم، حيث يعتبر الكتاب وما تختزنه الكاتبة من مشاعر حب نحو القاهرة والمصريين، فصل من فصول الوفاء العربي، وتجسيد للقيم العربية، وتطبيق عملي للروابط الانسانية والثقافية والحضارية المهمة التي تربط بين مصر والإمارات، وبين القاهرة والشارقة، وبين الإماراتيين والمصريين.
ولاشك أن صدور الكتاب عن دار نهضة مصر دار النشر العريقة التي تأسست عام 1938، أمر له رمزيته، حيث قامت الدار على مدى 83 عاما بإثراء العالم العربي بالكتب القيمة في كافة حقول المعرفة والتأليف والترجمة.
يستمد الكتاب أهميته أيضا من المؤلفة المبدعة ميسون التي التقيت بها في حفل توقيع كتابها "مقهى ريش .. عين على مصر"، على هامش معرض الشارقة الدولي للكتاب 40، أول من أمس، بعد سنوات من معرفتها من خلال الكلمة والإبداع، حيث وجدت فيها نفس الصورة الذهنية التي أختزنها عن المبدعة العربية المثقفة الواثقة، التي تؤمن بقيم الثقافة والابداع، رأيت فيها أيضا عائلة القاسمي العريقة التي قدمت للثقافة العربية الكثير، ولازالت تحمل مشعل الثقافة ممثلة في حاكم الشارقة عضو المجلس الأعلى لاتحاد دولة الإمارات المفكر الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي الذي يقود نهضة الثقافة العربية من الشارقة.
كتاب ميسون صقر القاسمي "مقهى ريش" ليس فقط عين على مصر، ولكن عين على الانسان والمكان، والثقافة والابداع، يوثق تاريخ شعب، ونهضة أمة عربية، آن لها أن تنهض ـ كطائر العنقاء ـ لتستعيد دورها في النهضة العالمية.