الرياض: خاص.
علق أستاذ التاريخ والكاتب السعودي الدكتور عبدالله العسكر في 21 / 1 / 2004 على تقرير كتبه الأمير كمال فرج في صحيفة "الوطن" السعودية " بعنوان "حزام العفة" .
العسكر اختار صحيفة "الرياض" ليعلق على الموضوع بالتفصيل، بعد أن حالت المساحات من نشر رأيه المفصل في تقرير أعده الكاتب في صحيفة "الوطن"، فكان تعليقه المفصل من خلال مقال بعنوان "حزام العفة". وفيما يلي نص المقال :
(هذا موضوع رأيت تناوله بعد أن قرأت خبراً وتعليقاً أورده الزميل الأمير كمال فرج من جريدة "الوطن" في العدد 1184يوم السبت 1424/11/4هـ . وجاء في الخبر أن الزميل فرج زار متحف ايروتيكا في كوبنهاجن عاصمة الدنمارك، ووجد من ضمن معروضات المتحف نماذج لحزام العفة مصنوعة من الجلد أو الحديد، ومعروضة في فتارينات.
وهذا الحزام المصنوع من الجلد أو من الحديد تلبسه المرأة، ويحيط بقُبلها، وفيه قفل يتم إغلاقه، ولا يمكن للمرأة أن تخلعه إلا بوجود المفتاح الخاص بالحزام.. وعادة ما يكون المفتاح مع الرجل.. وقد يطول لبس الحزام لأشهر، ومن هنا فقد صنعت فتحتان صغيرتان للخارج من السبيلين.
وشاهد الزميل فرج خلف الحزام صورة لشخصيات عربية وصورة للجمال وأخرى لأهرامات الجيزة، مما يوحي بأن حزام العفة كان تقليداً شائعاً عند العرب في جاهليتهم وعند المصريين.. وقد علّق الزميل المحرر على حزام العفة والصورة المصاحبة له بقوله: ان هذا من جناية كتّاب العصور الوسطى وتشنيعهم بالعرب والمصريين.
وكان أن هاتفني الزميل فرج طالباً ما أراه حول الموضوع.. وحيث انه نشر جزءاً يسيراً من رأيي، أحببت أن يطلع القراء الكرام على مجمل القول في هذا الشأن، خاصة أن إخوة كراما وأخوات كريمات يطلبون التفصيل والتوسع.. وقبل تناول هذا الموضوع الطريف، رأيت من المناسب العروج على العفة ذاتها، ومدلولها التاريخي.
تقابل العفة، عند الشعوب القديمة، في عموم لفظها الزنا أو البغاء (يُعبر القرآن الكريم عن البغاء ومرادفاته بلفظ الفاحشة).. ومن هنا فقد تباينت نظرة تلك الشعوب تجاه العفة.. فمنهم من عدها من الفضائل وشرطاً من شروط الزواج واستمراره.. ومنهم من لم يعر هذا الأمر كبير اهتمام.. ومنهم من جعل البغاء ضرباً من ضروب العمل المقدس، ويُسمى: (البغاء المقدس أو العهر المقدس) وهو سائد في مصر القديمة وفي الهند، وفي بلاد سومر وهو من الأعمال التي تقرب أصحابها إلى معبودهم زلفى. أما عند العرب في عصورهم القديمة فإن عفة المرأة لا تتمثل فقط في المعنى الحسي أو الجنسي، بل تشمل معاني أخلاقية كثيرة.. والمرأة عندهم لابد أن تكون عفيفة وإلا فقدت معنى الحياة، بل إن بعضهم يئد بناته خوفاً ألا تتحقق العفة فيما بعد.. وقد أشار المؤرخ المشهور سترابون إلى أن الموت هو عقوبة الزانية عند العرب.
لم أجد ما يشير إلى حزام العفة في التاريخ القديم ولا في التراث العربي القديم أيضاً.. على أنه يمكن القول أن الرجال الأغنياء كانوا يتلمسون ما يحمون بهم زوجاتهم وعشيقاتهم من الانحراف الجنسي.. وهو انحراف شاع أمره.. وفي المقابل فإنني لم أعثر فيما بين يدي من مصادر متعددة إلى أن نساء العرب في القديم استعملن ما يسمى بحزام العفة.
ويظهر لي أن حزام العفة ما هو إلا تطور منطقي لحزام آخر كان معروفاً عند اليونانيين والرومان.. ويُعرف بحزام فينوس girdle of venus ، وله ذكر متواتر في أساطيرهم القديمة.. حزام فينوس عند الرومان، أو أفرويت عند اليونان عبارة عن حزام يثير الشهوة الجنسية عند الآلهة والرجال على السواء.. وكانت أفروديت تستخدمه كثيراً وكانت تقرضه للأخريات.. وقد أعارته للإلهة هيرا زوجة كبير الآلهة زيوس عندما أرادت أن تسلب لب رب الأرباب ليساعد الطرواديين ضد اليونانيين.. في الحرب الدائرة بينهما.. وهذا الحزام يسمى أيضاً حزام سيستس Cestue.
وفي تاريخ أوروبا في العصور الوسطى شاع استعمال حزام العفة.. وكانت الكنيسة وراء شيوع استعماله، وأصبح للحزام سوق رائجة في مدن أوروبا.. وكان النبلاء يجبرون زوجاتهم على لبس الحزام عند خروجهن من المنازل أو عند السفر، حماية لهن من الانحراف، أو التواصل الجنسي خارج إطار الزواج.
والمرء لا يستبعد شيوع حزام العفة في أوروبا في العصور الوسطى، ذلك أن المرأة كانت تُعد من سقط المتاع، ولم تكن لها شخصية مستقلة، وليس لها إلا أن تخضع لنزوات الرجال، ولأوامر الكنيسة، وكلاهما استعبدا المرأة.. بل انهما تفننا في كل ما يجعل المرأة سجينة الجسم والفكر.. ، وعلى هذا يمكن أن نعد حزام المرأة من الثقافة الشعبية السائدة آنذاك.
والغريب ان فكرة حزام العفة انتقلت إلى العصر الحديث المبكر، وربما انتقلت من أوروبا إلى الصين أو الهند.. فقد ورد أن مصانع سراويل العفة في الصين تقوم بالترويج للباس داخلي يلف وسط المرأة، ولا يمكن إزالته إلا باستعمال أداة الكترونية.. وحيث ان فكرة الحزام أوروبية بحتة، فقد أوردت جريدة الوطن خبراً عن حداد بريطاني من مدينة مانشستر يقوم بتصنيع احزمة العفة، وانه جمع ثروة من صناعته تلك.. ونحن لا نستطيع الجزم بخصوص الصانع في الصين أو بريطانيا.. وما يهمنا هنا هو أن فكرة الحزام قديمة قدم فكرة المحافظة على عرض المرأة.
ولم أجد أن التراث العربي الإسلامي تطرق لحزام العفة، وهو كما قلت سابقاً أنه تراث يبني أحزمة العفة عند المرأة من الداخل لا من الخارج.. فالتشريع والتربية كفيلتان بإشاعة العفة عند الرجال والنساء على حد سواء.
ولهذا الموضوع الطريف فائدة تاريخية مهمة، وهي أن قضية الحزام تنتظم مع قضايا كثيرة تعرضت لها المرأة في أوروبا في فترة الظلام الدامس الذي اجتاحها، قبل أن تتعرف على الحضارة الإسلامية.. ولهذا يصح القول أن الإسلام حرر المرأة الأوروبية تحرراً فكرياً ومادياً، قبل أن تتحرر مع بزوغ فجر النهضة الأوروبية.
وأمر آخر فإني لا أميل إلى أن كتّاب العصور الوسطى الأوروبيين أو حتى المحدثين هم من روّج فكرة أن حزام العفة من تراث العرب، ولا أميل كون ما عُرض في متحف ايروتيكا يمثل وجهة صحيحة، أو أنه يحمل رسالة ضد العرب..
ما اعتقده أن تراث الشعوب، وخاصة الأسطوري منه، تراث مشترك.. وما هو معروض في المتحف لا يعبر عن درس تاريخي، بقدر ما يعبر عن فن وتسلية، والمأمول ألا تحمل صحافتنا تلك القضايا اكبر مما تحتمل.. والعبرة بالتراث الموثق، والله اعلم).