منذ بداياتي الصحفية وأنا مهتم بالصورة، استوقفتني هذه الآلة الساحرة التي تسمى "كاميرا" مبكرًا، وتعجّبت كيف تقتنص اللحظة الهاربة قبل أن تتسرب كالماء بين الأصابع؟، كيف تحفظ الأسماء والوجوه والتواريخ، وتكشف الماورائيات؟.
بدأ اهتمامي بالصورة، وأنا طفل، عندما كنا نركض خلف "صندوق الدنيا"، ونعطي صاحبه القروش القليلة، ونشاهد داخله عالم الصور العجيب، وننصت بكل جوارحنا إلى التعليق المصاحب.
كانت الصور في الستينيات وما بعدها نافذة على العالم، بشخوصه وأحداثه، وكانت هواية قصّ الصور من المجلات وتعليقها على الحوائط شائعة، وكانت المطبوعات تروي هذا الشغف بإصدار "بوسترات" لأهم نجوم الفن والرياضة، مثل لاعب الكونغ فو بروس لي، ولاعب الكرة محمود الخطيب الملقب بـ "بيبو"، يوضع البوستر في منتصف المجلة بحيث يسهل خلعه وتعليقه، وبالتالي أحببنا التصوير، الذي كان في بعض الأحيان مهنة يرتزق منها البعض في المرحلة الثانوية، أتذكر صديقنا "مجدى" الطالب في الفصل المجاور الذي كان يعمل في هذا المجال، .. تعلّمنا التصوير، واخترعنا السلفي قبل ظهوره الرسمي بـ 40 سنة.
وعندما عملت في الصحافة كانت الصورة لدي هي من تصنع الموضوع، وليس العكس، ففي المهمة الصحفية الواحدة ألتقط عشرات الآلاف من الصور، لأني أعلم جيدًا أن صورة واحدة قد لا تعبأ بها الآن يمكن أن تدخل التاريخ يوما ما.
وقد أسفر شغفي بالصور عن أرشيف ضخم ، يتضمن عددًا من اللقطات النادرة، بعضها التقطته بنفسي، والبعض الآخر اقتنيته، واشتريته من المصورين وبنوك الصور، وبائعي الرصيف، بعضها ورقي يحتل عشرات الكراتين، وأخرى تحتل عشرات أقراص التخزين هنا وهناك، جزء كبير منها بالأبيض والأسود، وهو يعتبر ثروة. إضافة إلى عدة كاميرات توثق تطور التصوير من الفيلم النيجاتيف إلى عصر الديجيتال.
والتصوير أقدم الفنون، بدأ عندما كان الانسان القديم يرسم صورًا للحيوانات والأشكال على الأحجار، وهو ما بينته الحفريات التي يرجع تاريخها إلى آلاف السنين، وهو ما تطور لاحقا لتنبثق منه حزمة من الفنون كالرسم والنحت والعمارة والمسرح وفنون الفرجة.
وإذا كان لويس داجير قد اخترع "الكاميرا" عام 1787م، فإن كثيرين لا يعرفون أن العالم العربي ابن الهيثم مهّد الطريق لذلك باستخدامه "قمرة" في غرفة سوداء ليجري فيها أبحاثه عن الضوء وانعكاساته، حتى أن اسم "الكاميرا"، اشتق من كلمة "القمرة" العربية، وتعني المكان المظلم المغلق.
الصورة مجرد لقطة، ولكنها عظيمة التأثير، تثير النقيضين: الفرح والحزن، قد توثق ذكرى زواج عروسين، وقد تعلق في غرفة الجلوس مجلّلة بشريط أسود لتعبر عن وفاة كبير العائلة.
"الصورة" ذكرى عندما يغيب الأحبة، ودليل عندما تضيع الأدلة، ووثيقة عندما يحاول البعض تزييف التاريخ، وثقافة في زمن الجهل، وعلمُ تفوق أهميته علم الاجتماع.
الصورة درس عملي للحياد، فهي لا تناصر هذا ولا ذاك، تنقل الحقيقة المجردة، وترصد الواقع بلا رتوش، تختصر الجهد والوقت والكلام، لذلك وصفت في الصحافة بأنها تساوي 1000 كلمة.
حاول البعض تزييف الصورة فلم يفلح، ولازلنا نتذكر السقطة التي وقعت فيها صحيفة "الأهرام" عام 2010، عندما عدّلت صورة تجمع الرئيس محمد حسني مبارك مع بعض الرؤساء ومنهم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، بواسطة برنامج الفوتوشوب، ليكون "مبارك" في مقدمة الرؤساء، وكانت فضيحة.
الصورة عماد الإبداع، ففي القصيدة الصورة الشعرية هي ماء الشعر وروحه، وفي السرد التصوير الفني هو البنية الأساسية للعمل الروائي، وفي الرسم، التصوير التشكيلي من أقدم الفنون، الصورة هي أساس الإبداع في كل الفنون، لذلك فإن المبدع الناجح مصور ناجح.
المبدع الحقيقي قادر دائمًا على استعادة الزمن، والتعبير عن الواقع من خلال الصورة الفنية، ولكن المشكلة تحدث عندما ينسى المبدع الصورة، فيتحول الشعر إلى نثر، والقصة إلى تقرير، والرواية إلى بحث.
واللغة العربية لغة تصويرية، تقدم المعنى من خلال الصورة، ولديها من المقومات ما يساعد على ذلك مثل البلاغة والفصاحة والبيان والبديع والمحسنات البديعية، والتفكير يعتمد على ثنائية "اللغة والصورة".
والتصوير لا يقتصر على المصورين، ولكنه فعل انساني مستمر، فالعين كاميرا ربّانية تصور كل شيء، وتختزنه في ذاكرة جبارة تساوي الملايين من أجهزة التخزين، يستدعيها الانسان في اللحظة المناسبة.
وفيما تتكون الصورة في العين، تتكون عند المبدع في المخيلة، فالإبداع صورة متخيلة للواقع، والخيال دائما أقوى، والدليل على ذلك الشاعر بشار بن برد الذي أبدع في تقديم أجمل الصور الشعرية كان أعمى.
يجب أن نعلي من قيمة الصورة، والتوسع في دراسة الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية لها، وإنشاء المعارض والمتاحف الدائمة التي تهتم بعرض الصور وتحليلها، وإحيائها بمساعدة الذكاء الاصطناعي والميتافيرس، وتدشين علم جديد هو "ثقافة الصورة".
والاهتمام بالصورة لا يجب أن يقتصر على الحياة الاجتماعية، ولكن في الإبداع بكل صنوفه، وأشكاله، فالصورة ليست فقط وثيقة وشهادة وذكرى ومرآة للحياة بكل تفاصيلها، ولكنها أيضا مقوم رئيسي للإبداع الإنساني.