أقدم عملية إبداعية هي التدوين، فقبل اختراع الكتابة، دوّن الانسان في العصر الحجري رسوماته وخواطره على الأحجار والأشجار، وجدران الكهوف، وفي مصر القديمة دوّن قدماء المصريين يومياتهم باللغة الهِيروغليفيَّة على المعابد والتوابيت وأوراق البردي، وأرفقوا كتاباتهم بالصور التوضيحية، في إشارة مبكرة لأهمية الصورة، وهكذا فعلت الحضارات الكبرى.
كان تدوين الأحداث يتم بالخيار الصعب، وهو الحفر على الحجر، ولولا ذلك لفقدنا حضارات وثقافات كان لها دورها في تطور الإنسان.
وإذا تأملنا قليلًا، سنكتشف أن هذا التدوين بمفهومه البسيط كان فاتحة للعديد من الفنون، مثل الرسم والنحت والقص والفنون المعمارية والتأريخ، كما كان حافظة للحكم والقوانين والدروس والعبر ووصايا الأجداد، والعلوم والثقافات على مر التاريخ.
وفي العصر الحديث، تعددت وسائل التدوين، واتخذت أحيانا جانبًا حكوميًا، فكانت السجلات الحكومية المتعلقة بالمواليد والوفيات والمعاملات، والسجلات العسكرية التي تدون الأحداث والوقائع، وكذلك اليوميات الدبلوماسية والسياسية.
وبعد تطور طرق التدوين وتعدد الفنون الإبداعية، ظلّ تسجيل الوقائع والأحداث عادة لدى الكثيرين، ولكن تحت مسمى حديث هو "اليوميات"
واليوميات سجل أو دفتر يحتوي على معلومات مرتبة تاريخيًا، باليوم وأحيانا بالساعة والدقيقة، وفيها يدون المرء الأحداث التي مر بها في اليوم، قد يقتصر على تدوين المناسبات المهمة كإنجاب طفل، أو تخرج إبن أو الحصول على وظيفة، وقد يتم بشيء من التفصيل، حيث يبوح المدوّن بهمومه وشجونه وكأنه يخاطب نفسه، فتكون اليوميات تسجيلًا للحدث وتقديم الانطباعات عنه.
قد تتضمن اليوميات عناوين عمومية، وقد تشمل أسرارًا واعترافات شخصية، لذلك فإن فقد هذا الدفتر يكون ـ في بعض الأحيان ـ مشكلة كبرى.
وكان الهدف من اليوميات الفضفضة والتذكير والاعتزاز بوقائع معينة، ولم يكن هدفها النشر، ولكن بمرور الزمن تطورت لتصبح فنًّا وأدبًا، وقد مارس هذا الفن أدباء كبار، بل أنه تطور وتشعب ليشمل ألوانًا في الكتابة مثل أدب الرحلات والمذكرات والسير الذاتية.
واليوميات فن قديم، ومن أشهر اليوميات الأوروبية كتاب جورج أورويل "اليوميات (1938-1942)، ويوميات صموئيل بيبس (1633 - 1703)، و"مذكرات فتاة صغيرة" لآن فران (1929ـ 1945)، وكتب كثيرون يومياتهم مثل تولستوي، وأنطون تشيخوف، وألكسندر بوشكين، وفيرجينيا وولف، وكافكا، ورامبرانت.
وعرف الأدب العربي اليوميات منذ القدم، وأقدم اليوميات في العالم هي "يوميات فقيه حنبلي من القرن الخامس الهجري" التي دوّن فيها المؤرخ البغدادي أبو علي بن البناء الحنبلي تعليقاته على حوادث عصره، ومن كتب التراث التي اعتمدت ذلك كتاب "صيد الخاطر" لابن الجوزي.
وفي العصر الحديث ظهرت اليوميات السردية، مثل "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم (1898 - 1987)، والتي يسجل فيها مشاهداته أثناء عمله وكيل نيابة في الريف المصري.
وعلى المستوى العام، كانت اليوميات شائعة في الستينيات وما بعدها، خاصة قبل انتشار المذياع والتلفزيون، وكانت جزءًا من شخصية المدوّن، وأفكاره وأحلامه، خاصة المراهقين، حيث يتزين بعضها برسومات وقلوب، مما يجعلها قطعة من الروح.
واليوميات لها مزايا متعددة، فهي وسيلة للتنفيس والبوح، واستعادة الذكريات، واكتشاف الذات، وفرصة للتخطيط للمستقبل، كما أنها مدرسة للسرد، تطور قدرات المدون في التعبير والحكي، وهي كلها مقومات مبدئية في السارد العليم.
ولكن الميزة الكبرى في اليوميات إمكانية أن يمارسها الجميع، فلا يشترط أن يكون المرء أديبًا أو مثقفًا، أو في مستوى تعليمي محدد، لذلك يمكن اعتبار اليوميات فن العامَّة.
ومع دخول التقنية، انحسرت الكتابة اليدوية، وما رافقته من دفاتر وأدوات، ففقد التدوين طقوسه الحميمية مثل القلم والورقة وعنصر الزمن الذي يضع بصماته على الأحبار والأوراق.
ورغم شهرة اليوميات، وتأثيرها على مر التاريخ، ودورها في الثقافة العالمية، ظلت فنًا بلا قواعد، وهواية تخضع للنصائح الشخصية.
لذلك أقترح دراسة "اليوميات"، وتحويلها من هواية شخصية إلى فن له أسسه وقواعده، وتشجيع الناس على ممارسته، ليكون رافدًا جديدا للثقافة والإبداع.
أتمنى إحياء العادات الشخصية الشعبية والتي كانت يوما من الأيام جزءًا من ذاكرة الأجيال مثل اليوميات"، و"الأوتوجراف" و"الخواطر"، و"الرسائل" والتي دهستها عجلة التطور.
بذلك لا نحصد فقط المزايا النفسية والروحية والاجتماعية لهذه العادات، ولكن نقدم البنية التحتية الملائمة لظهور الأديب والروائي والقاص، والمبدع القادر على الرصد والتوثيق والقصّ والحكي والإبداع، وهذه لا شكّ فائدة عظيمة.