الشعر أصل الفنون الإبداعية، فاللغة الشاعرة كانت الأساس، بها ارتقى الكلام العادي الذي هدفه "الإفهام"، إلى مستوى أعلى من التعبير "التأويل" تستخدم فيه مقومات لغوية متعددة، وهو أمر يمكن استكشافه بدراسة اللسانيات أو علم اللغة.
وبغضّ النظر عن نظريات نشأة اللغة، من المنطقي أن اللغة الشاعرة تكونت في البداية في عصور سحيقة، وبعد ذلك انبثق الشعر نفسه بشكله النثري في صورة استعارات وتشبيهات ومجازات لها مدلولات معينة تعبّر عن مشاعر الإنسان. عبر الطقوس القديمة والترانيم المسجوعة المستخدمة في الاحتفالات أو المناسبات أو الجنازات.
ولاحقًا وبشيء من التنظيم ظهر الشعر الملحمي والمسرحي، ثم ابتكر الانسان الشعر العمودي الموزون المقَفّى بهيكله الهندسي البديع، ثم الحديث بتفعيلاته الحرّة، ثم ظهرت أشكال التعبير الأدبية الأخرى كالقصة والرواية، لذلك كان الشعر بالفعل فن العربية الأول.
القصيدة فنٌ عريقٌ وُجد قبل ظهور الكتابة والتدوين، حفظته الذاكرة الجمعية أكثر من 1500 عامًا، وعلى مر العصور كان مقياسًا للتطور، ففي عصور الازدهار تطور الشعر على صعيد الأفكار والصور والأوزان، وفي عصور الانحطاط فقد عناصر قوته وركن إلى الزخرفة والتقليد.
والشعر أبو الفنون، الحبل السرّي الذي تغذت منه كل الفنون الإبداعية.. النثر والسرد والغناء والقصة والرواية والمسرح، والمقامة والمقالة والسيرة، كان لغة الفنون الشفهية القولية والشعبية والأدائية، وعنصر أصيل في الفنون المرئية مثل السينما، والتلفزيون، والسيناريو، والصوتيات والمرئيات، وهو موجود في التراجيديا والكوميديا على حدٍ سواء.
والشعر كان على مرّ العصور محرّكًا فاعلًا في فنون أخرى غير مكتوبة مثل العمارة، والموسيقى، والرسم، والنحت، والرقص، والرقش، وكذلك الفنون الحديثة مثل التصميم والديكور..، الشعر عنصر ضروري في الخطابة والكتابة والإعلام وتكوين الذوق العام، فاللغة تخطّى دورها الأول في التفاهم بين الناس وأصبحت وسيلةً للتفكير ومرتكزًا للإلهام.
والشعر نفسه يتضمن العديد من الفنون، فهناك القصيدة / القصة، والقصيدة / اللوحة، وقد استوعب منذ العصر الجاهلي علومًا حديثة مثل الفلسفة وعلم الجمال، وتيارات أحدث مثل الحداثة. يقول الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر "جوهر الفن هو الشعر".
نجحت القصيدة ـ مثل الوسائط المتعددة ـ في دمج فنون مختلفة وتقديم محتوىً مشوقًا يجذب الحواس الخمس، ولعل ذلك سرّ خلود الشعر العربي، رغم رياح التغيير العاتية.
لذلك أتعجب من الصراع المفتعل بين الفنون الأدبية، والزعم أن الشعر تراجع والرواية تقدمت، وأصبحت ديوان العرب، وأنها قالت ما لم يقله الشعر، وأن هذا "زمن الرواية"، فمن يزعم ذلك مثل الإبن العاق الذي يدّعي أنه أفضل من أبيه.
الشعر ديوان العرب، ومستودع القيم والعادات والتقاليد، والانتصارات والانكسارات، ومرجعٌ للتراث والحضارة منذ فجر التاريخ، وأحد عوامل تكوين الهُويّة، وهذا ليس غريبًا، فهو ثمرة لّغة عبقرية هي اللغة العربية، يقول أمير الشعراء أحمد شوقي :
" وَالشِعرُ في حَيثُ النُفوسِ تَلَذُّهُ
لا في الجَديدِ وَلا القَديمِ العادي
لَم يَكفِهِم شَطرُ النُبوغِ فَزُدهُمُ
إِن كُنتَ بِالشَطرَينِ غَيرَ جَوادِ
إِنَّ الَّذي مَلَأَ اللُغاتِ مَحاسِناً
جَعَلَ الجَمالَ وَسَرَّهُ في الضادِ"
والقصيدة أحد مقومات الشخصية، ووسيلة في التهذيب والتربية وتوطيد العلاقات وترسيخ القيم وغرس الأخلاق، والعادات الحميدة، وقد تنبّه علماء الاجتماع إلى ذلك، وتعاملوا مع الأدب كنظام اجتماعي، فظهر "علم اجتماع الأدب"، ثم مصطلح أدقّ هو "علم اجتماع القصيدة".
والشعر موجودٌ في العديد من مظاهر الحياة، في الحِكَم والأمثال والتعبيرات الشعبية، والعادات والتقاليد، واللهجات، إذا أردت التأكد تأمل حوارات القرويين والأميين، ستجد الكثير من البلاغة والفصاحة والصور الفنية البديعة، ستجد الشعر الفطري الحقيقي على ألسنة البسطاء.
واللغة العربية ذات إيقاع نغمي، الكلمة فيها لها جرس موسيقي مدوزن، لذلك ستضبط في بعض الأحيان على ألسنة المتكلمين جملًا موزونة ومقفاة يمكن أن تكون بيتًا أو شطرة شعرية.
الشعر أصل الفنون، المادة الخام لصناعة الأجناس الأدبية، اللّبِنَة الأولى في التفكير والإبداع، إذا قويَ قَوِيتْ كل الفنون، وإذا ضعفَ انهارت كل الفنون، إذا ازدهرت القصيدة، رقّت المشاعر، ولانت النفوس، وازداد الوعي والتنوير، ونهضت الأمم، وانتصرت القيم الانسانية.. ، لذلك يجب أن نتعامل مع القصيدة ليس فقط كأحد أنواع الفنون الأدبية، ولكن كأسلوب حياة.