يحرص كثيرون على استخدام أسلوب أفعل التفضيل في كافة مناشط الحياة، واسم التفضيل هو اسم مشتق من حروف الفعل الماضي الثلاثي على وزن "أفعل"، ليدل على أن شيئين اشتركا في صفة معينة ولكن أحدهما زاد على الآخر، مثال ذلك "أفضل طالب في الفصل"، و"أفضل بنك"..
وفي عالم الثقافة ينتشر أسلوب أفعل التفضيل، مثال "أفضل 100 رواية عربية"، ومن أمثلة التعريفات التفضيلية "الشعر ديوان العرب"، و"المسرح أبوالفنون"، وفي نفس المعنى هناك أحكام تفضيلية مثل "زمن الرواية" وهو عنوان كتاب للدكتور جابر عصفور، وهو تصريح يتماهى مع المقولة الشائعة، والتي تقول أن "الرواية انتزعت من الشعر لقب ديوان العرب"، ويظهر هذا أيضا في مقولات تمييزية مثل "الرواية تقول ما لم يقله الشعر" وهو عنوان أحد مقالات صديقي الروائي والشاعر أحمد فضل شبلول.
وفي بعض الأحيان يصل الإمر إلى حدود أبعد، فيهاجم شخص فنًا أو أسلوبًا أدبيا معينًا، مثلما فعل شاعر صديق عندما هاج شعراء العمودية، وطالب بعزلهم في البرّ، تأسيا بالممثلة العربية التي طالبت إبان تفشي فيروس كورونا بعزل الوافدين في البرّ.
حتى داخل الفن الواحد مثل الشعر، وضع ابن سلام الجمحي "طبقات فحول الشعراء"، ومنها الشاعر والفحل والخنزيز وغيرها، ووضع في كل طائفة عدد من الشعراء.
أما الألقاب التفضيلية فلا حصر لها، مثل "صناجة العرب" وهو ميمون بن قيس بن جندل "الأعشى"، و"أمير الشعراء" أحمد شوقي ، و"شاعر النيل" حافظ إبراهيم، و"شاعر القطرين" خليل مطران، ومن الألقاب التفضيلية الصريحة لقب "شاعر العرب الأكبر" الذي عرف به محمد مهدي الجواهري.
وفي الثقافة المصرية ظهرت ثنائيات ومواجهات متقابلة، مثل الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، والقديم والجديد، والشعر التقليدي والشعر الحر، والفصحى والعامية.
هناك ولع بفكرة التفضيل، بمعنى أدق الصراع بين الأجناس الأدبية، واهتمام غير عادي بعقد المقارنات، وإذكاء التجاذبات حتى في إطار الفن الواحد.
ولكن إذا دققت في الأمر ستكتشف أن الصراع وهمي، وأن الفنون الإبداعية خرجت من جذر لغوي واحد، ولكل فن مزاياه، ولكل مبدع أيضا سماته الخاصة. يعزز ذلك ما نراه على أرض الواقع، فهناك مبدع يكتب الشعر والرواية، وآخر يكتب الرواية والمسرح، وهكذا ... الفنون الإبداعية واحدة، مادتها الأساسية اللغة الشاعرة.
وعلى صعيد الكتابة، لكل فن طبيعته ومزاياه الخاصة التي لا يشترك فيها فن آخر، فمثلا الشعر يتميز بزمن الإبداع القصير، حيث يمكن للشاعر أن يكتب قصيدته في دقائق، كما أنه يتميز بسهولة الحفظ، كما أن القصيدة يمكن ارتجالها.
أما الرواية وإن كانت لا تتمتع بميزة الزمن والحفظ والارتجال، فإنها تتميز بمساحة إبداعية أكبر، والتي تمكنها من التوثيق والتأريخ والسرد لمساحات زمنية وجغرافية أرحب قد تمتد لعصور وأجيال.
وفيما تعد الفصحى هي لغة الثقافة والصحافة والتعليم والعلوم والذاكرة الأدبية، تتميز العامية بسرعة الوصول إلى الناس، حيث يمكن لكل الفئات أن تفهمها خاصة الفئات غير المتعلمة، كما أن القاموس الشعبي التي تتميز به يساعدها على سرعة الانتشار.
وهكذا في التشكيل والخط والعمارة، لكل فن موضوعه الخاص، وتقاليده الخاصة، وفرادته الخاصة، وهذا التنوع سر بقائه، فلو تشابهت الفنون لاختفت، وقام كل فن مقام الآخر.
أما الألقاب فهي في الغالب غير موضوعية، ليس من ناحية الاستحقاق من عدمه، ولكن لأن مبدأ التلقيب نفسه مبدأ غير منطقي، فعقارب الساعة تتحرك، وكل يوم يظهر مبدعون جدد في أنحاء الكون واسع الأطراف، كما أن مانح اللقب سواء أكان فردا أو جماعة من الطبيعي أنه لم يقرأ ويقيم كل المبدعين . أضف إلى ذلك أن هذه الألقاب ـ حتى لو سلمنا بصحتها ـ فإنها مرتبطة بالزمن الذي صدرت فيه، والحكم قد يتغير حتى بعد ساعة أو دقيقة، بظهور مبدع جديد أكثر استحقاقا.
ولا أدرى سبب هذه الظاهرة التي أحالت حياتنا الثقافية في كثير من الأحيان إلى حلبة صراع، تتكون من جبهات وفرق، وكل فريق يتعصب لشاعر أو اتجاه أو رؤية أدبية. وبذلك غابت الموضوعية.
ظاهرة التفضيل والتمييز التي تكثر في حياتنا الثقافية حالة عاطفية تكثر أيضا في حياتنا الاجتماعية، حيث هناك شغف عام بتحديد الأول والأروع والأكبر، وهذا الأسلوب يستخدم كثيرا في الصحافة لجذب القارئ للمانشيتات والعناوين، وهذه الظاهرة ـ رغم حسن النية ـ أحكام شخصية لا تفيد الحركة الثقافية، على العكس فإنها تقنن التحزب والتفرق والتعصب، وتبتعد بنا عن القضايا الجوهرية.
والحل هو العودة إلى الموضوعية، بالاحتكام إلى قواعد النقد التي اتفق عليها النقاد والعباد، فالنقد هو المعيار الصحيح لتقييم الفنون الإبداعية المختلفة.