مع أهمية النقد الأدبي ودوره في تطوير الأجناس الأدبية، فإن كلمة "النقد" في المجتمع بشكل عام كانت دائمًا غريبة مهمشة، وفي بعض الأحيان كان "النقد" كلمة سيئة السمعة، حتى أن البعض يستخدمها في الحياة الاجتماعية كمثلبة، وفي بعض الأحيان يخلط البعض بينه وبين "الانتقاد"، رغم الفرق الشاسع بين الاثنين.
فالنقد هو التمييز بين الصحيح والزائف من العملات النقدية، وإبانة الجَيِّد والرديء في أفعال أو إبداعات أو قرارات يتخذها الإنسان، أما الانتقاد فهو فضح العيوب دون الالتفات إلى نقاط القوة.
وعلى صعيد التخصص، فالنقد في نظر المتخصصين ممارسة فئوية لا يجب أن يمارسها إلا المتخصصين الدارسين العالمين، وفي المقابل عند العامة هناك تصنيف شهير هو "النقد البنّاء" و"النقد الهدّام"، وهناك أيضَا تشبيهات سيئة للنقد مثل "النقد اللاذع" و"النقد المدمّر" و"النقد السلبي"، وينتقد البعض "العين الناقدة" التي لا ترى إلا السلبيات.
وهناك تصنيفات طريفة للنقد الهدّام، مثل النقد الأعور، وهو "نقدك لمن لا تحب فتنشغل ببيان العيوب دون المزايا لأن بغضك للمنقود أعماك عن رؤية أية مزية"، والنقد الأحول وهو "نقد من تحب فتهتم ببيان المزايا وتكبرها، وتتجاهل العيوب أو تصغرها فلا تكاد تبين".
أما على صعيد الأدب فتختلف الآراء حوله، ففيما يعظّم البعض النقد ويؤمن بدوره في الارتقاء بالأدب، يرفضه بعض المبدعين، ويرى أنه وصاية على الإبداع، و"يضيق ذرعا بالنقد" وفق التعبير اللغوي الشائع، وفيما يعتبر البعض الناقد مبدعًا فاشلًا، يجهل البعض مفهوم النقد ويعتقد أنه إما على "هجاء" أو"مدح".
والنقد في الحقيقة ـ وبشكل عام ـ ممارسة مهمة في كافة مجالات الحياة، لأن أي من أفعال الإنسان غير منزّهة عن النقص والعوار والخطأ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون».
والنقد هو التحليل والكشف والمقارنة والتقييم المجرّد عن الهوى، وهو بذلك وسيلة لكشف المثالب والنواقص، وتقويم العمل، وإعادته إلى المسار الصحيح، وبه تتحقق مصالح البلاد والعباد.
و"التفكير الناقد" مصطلح فلسفي ظهر بداية في تعاليم سقراط، وهو تحليل عقلانيّ غير متحيّز، يتم بموجبه تقييم الأدلة والحقائق، والنظر التأملي الواعي لموضوع ما، وإخضاعه للفهم والتقييم، وفقًا لمعايير محددة.
والتفكير الناقد أرقى أنواع التفكير، وهو عملية مهمة في التعلم، لأنه يعتمد على الوعي والفهم وليس التلقين، لذلك حلّ في تصنيف "بلوم" لمستويات التفكير في أهداف التعلم، تحت عنوان "التقييم".
وقد عرّف الاقتصادي الأمريكي إدوارد جليسر التفكير الناقد بأنه "النزعة إلى التفكير المتعمِّق في المشكلات والموضوعات التي تقع في نطاق تجارِبِ الفرد، ومعرفة طرق الاستقصاء المنطقي والاستنتاج، والتحلي بقدرٍ من المهارة في تطبيق هذه الطرق»
ووفقا لتقرير دلفي "التفكير النقدي تفكير تأملي منطقي يتميز بمهارة الشرح، والتفسير الفعال، والتقييم، والملاحظة والتأويل، والتوضيح والاستدلال والتحليل، ويؤدي إلى ويسهم في التغيير".
وفي الميدان التعليمي النقد هو "التغذية الراجعة" التي "تهدف إلى إخبار المتعلم بنتائج ردوده وآلية تصحيح أخطائه، وهي تساهم في تعديل السلوك وتقويم النتائج"، وفي عالم الأعمال يعد تقييم الأداء أحد عناصر الإدارة الصحيحة.
والتفكير الناقد ـ في الأساس ـ منهج اسلامي يتجلى في التوجيه الإلهي بالتفكّر والتدبّر والفطنة والكياسة التي يجب أن يتحلى بها المؤمن، وهو أيضا يتفق مع منهج الشورى الواجبة على كل مسلم، كما يتفق مع محاسبة النفس وهي من سمات المتدين.
وتدبّر الأمر ـ في اللغة ـ تأمَّله وتفكّر فيه على مَهَلٍ، ونظر في عاقبته، والتفكّر في القضايا تَأَمُّلُهَا، وتَرْكِيز التفكِيرِ فِيهَا، لذلك كله، فإن التفكير الناقد أو العقلية الناقدة ممارسة مهمة تهدف إلى تنوير المجتمع، والارتقاء به.
والتفكير الناقد يفتح للانسان أبواب الرشد ويبين له الصواب من الخطأ، وهو خطوة أساسية نحو الإيمان، ومن أمثلة ذلك قصة سيدنا إبراهيم مع الأصنام التي كان قومه يعبدونها، قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ* إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُواْ وَجَدْنَآ آباءنَا لَهَا عَابِدِينَ* قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وآبَآؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)
ليس ذلك فقط، ولكن التفكير الناقد باب رئيسي للتجربة والمعرفة والتطور، وأحسب أن تطور البشر منذ العصر الحجري حتى الآن محصلة لعملية مستمرة من التفكير والنقد.
والنقد الحقيقي هدفه الإصلاح والتقويم، ويصدر دائما عن حب، وهو بذلك أبعد ما يكون عن التجريح أو الهجوم أو الانتقاص، ونظرا لتحسّس الانسان الفطري من النقد، فإن أهم عنصر فيه هو الأسلوب.
قبل الحديث عن أزمة النقد في الثقافة العربية، يجب التوعية بالتفكير الناقد، وأهدافه، وأنواعه وأساليبه، وأن يكون النقد أسلوبًا تعليميًا وقيمة أخلاقية يتعلمها الكبار والصغار. بذلك لا ترتقى الفنون والآداب فقط، ولكن يرتقي المجتمع ككل.