عماد قطري يكتب | السيد الجزايرلي .. بصمة شعرية جميلة وراسخة
القاهرة : ثقافة.
بدأ الشاعر والمثقف الكبير عماد قطري في نشر سلسلة على صفحته في فيسبوك عن أبرز الشعراء العرب، في مبادرة للتعريف بالتجارب الشعرية المصرية والعربية، وهي واحدة من مبادرات قطري الذي عرف بإسهاماته الرائدة في المجال الثقافي، من خلال "مؤسسة عماد قطري للتنمية الثقافية" التي أسهمت على مدى سنوات في إثراء الحركة الثقافية والعربية بإصدار أكثر من 300 إصدار .
فيما يلي ننشر إستعراضه النقدي للشاعر الكبير السيد الجزايرلي :
السيد الجزايرلي
شاعر ظلمته الغربة كثيرا لكن بصمته الشعرية تبقى جميلة وراسخة
شاعر مصري كبير ومغترب قديم
وجه إعلامي مشرف و نموذج للمثقف العضوي الذي يحمل هم الثقافة حيثما حل
صديق أعتز بها شاعرا و إنسانا
أثق أنكم ستجدون شعرا يسركم
8 ـ السيد الجزايرلي :
شاعر وكاتب وصحفي مصري يعمل بالصحافة السعودية منذ 1994م، وهو عضو اتحاد كتَّاب مصر، وله إسهامات نقدية في الشعر، والسرد، والمسرح، والسينما، والفنون التشكيلية.
وُلِدَ السيد الجزايرلي في الثامن عشر من شهر سبتمبر عام 1967م بمحافظة كفر الشيخ قبل أن ينتقل إلى الإسكندرية أواخر الثمانينيات الميلادية وينخرط بالحياة الثقافية فيها، وقد بدأ نشر قصائده وكتاباته الأدبية والنقدية منذ عام 1986م في كثير من المجلات الثقافية المصرية والعربية، من أبرزها: (الشعر، إبداع، الثقافة الجديدة، البيان، الرافد، البحرين، المنتدى)، وفي كثير من الصحف المصرية والعربية من أبرزها: (الأهرام، الجمهورية، المساء، أخبار الأدب، الحياة، الشرق الأوسط، الرياض، اليوم، الجزيرة، المدينة).
وخلال تجربة عمله بالصحافة السعودية عمل في صحيفة "الجزيرة" وفي صحيفة "اليوم"، وأدار عدداً من المجلات الشهرية والأسبوعية، حيث عمل مديراً للتحرير وإدارة المكاتب الخارجية في مجلة (روتانا)، ومديراً للنشر المتخصص في دار(أنغام للنشر)، ومديراً للتحرير في مجلة (المميزون vip)، ومديراً للتحرير في مجلة (ليلة خميس)، ومديراً للتحرير في مجلة (البارز)، ويعمل منذ عام 2008م في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني مديراً لمشروع الاستشارات الإعلامية، ومشرفاً على وحدة المطبوعات.
أصدر السيد الجزايرلي حتى الآن (10) كتب تتنوع بين الشعر والأدب والتوثيق الصحفي، من بينها (4) مجموعات شعرية هي:
• ديوان (سيرةُ العطشْ) إصدارات مركز المحروسة للنشر بالقاهرة 2011م
• ديوان (أبجديةُ الوجعْ) إصدارات دار الأدهم للنشر بالقاهرة 2014م
• ديوان (مِسْكُ الغيابْ) إصدارات مركز المحروسة للنشر بالقاهرة 2016م
• ديوان (حصادُ الملحِ والريحْ) إصدارات مركز المحروسة للنشر بالقاهرة 2018م
حصل السيد الجزايرلي على عدد من الجوائز وشهادات التقدير، من بينها:
• جائزة المجلس الأعلى للثقافة للشعراء الشباب عام 1993م.
• الجائزة المركزية للهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة عام 1995م.
• جائزة الإبداع المصري في المملكة العربية السعودية عام 1995م.
• كرَّمه مركز (حوار) (Hewar Art) للفنون التشكيلية بالرياض تقديراً لدوره في إثراء الحركة النقدية التشكيلية السعودية عام 2008م.
• كرَّمته وزارة التعليم العالي المصرية تقديراً لدوره في تنظيم وتنشيط العمل الثقافي المصري بالمركز الثقافي المصري بالسعودية عام 2009م.
• كرَّمته الجمعية السعودية للثقافة والفنون عن مسرحيته "عودة هاملت" التي عُرضت بالمهرجان السعودي لمسرح الشباب عام 2012م.
شارك في كثير من الأمسيات الشعرية، وفي عدد من لجان تحكيم المعارض التشكيلية والمسابقات الشعرية والأدبية، وأشرف على تنظيم الكثير من الفعاليات والأنشطة الثقافية بالمركز الثقافي المصري في الرياض منذ عام 1998م، وحتى الآن.
شارك بأوراق عمل في عدد من الندوات والفعاليات الثقافية في مؤسسات أكاديمية وثقافية من بينها: كلية التربية الفنية بجامعة الملك سعود، ومركز الملك فهد الثقافي، ووكالة الشئون الثقافية بوزارة الثقافة والإعلام، والجمعية السعودية للثقافة والفنون، ومكتبة الإسكندرية، والمركز الثقافي المصري بالرياض، ومعرض الرياض الدولي للكتاب.
سجل حلقات شعرية يومية لعدد من البرامج الإذاعية بالسعودية، وأعد وقدم برنامج (أطياف ثقافية) التلفزيوني على قناة family tv السعودية. كما شارك في عدد من الحلقات التلفزيونية لقنوات مختلفة في مجالات: الإعلام، والنقد، والفنون التشكيلية، والمسرح، والشأن الثقافي في مصر والسعودية.
نص أول :
فاءُ الفخَّار
من سيرةِ الصلصالِ
تنتفضُ الحقيقةُ في الجسدْ
وتُطلُّ من حمأٍ
يُواجهُ صمتَهُ المسنونَ
في ليلِ الخرافةِ
بالكلامْ
من سيرةِ الصلصالِ
تَخرجُ في المساءِ هُويَّتي
تتعلَّمُ الأسماءَ حرفًا
تِلْوَ حرفٍ
تستوي بَعْدَ الرُّفاتِ
سُلالةً
للكائنِ المخلوقِ من طينِ
السؤالْ
فلمن تبيعُ الريحُ أحلامَ الرمالْ؟
يا جَرَّة الفخَّارِ
من كَسَرَ الصبايا الخارجاتِ
إلى صباحِ النهرِ
من ليلِ العطشْ؟
من علَّم الصلصالَ سرَّ النارِ
في التوراةِ؛
والإنجيلِ؛
والقرآنْ
من قال للخزف اشتعلْ
جسدًا
يقاومُ طلقةً
روحًا
تحلِّقُ في السماءِ خفيفةً؛
وكأنها
وارتْ ذنوبَ الأرضِ
في طينِ البدنْ
يا جُثَّتي
سَقَطَ البياضُ عن الكفنْ
سَقَطَ الحدادُ على يديَّ
كغيمةٍ
تنوي الصلاةَ بلا وضوءٍ
أو مطرْ
يا جُثَّتي
صرختْ تفاعيلُ القصائدِ
كيْ تعودَ لبحرِها المهجورِ
من زمنِ الخليلْ
كيْ يزهدَ الصوفيُّ
في طلبِ التجلِّي،
والمددْ
(أحدٌ .. أحدْ)
تحيا الحقيقةُ في الجسدْ
يحيا انتصارُ الطينِ
بعدَ معاركِ الفخَّارِ
ضدَّ النارِ
ضدَّ الماءِ
ضدَّ نبوءةِ الأسماءِ؛
ضدَّ مشيئةِ الشيطانِ
إنْ جَعَلَ الغُثاءَ تميمةً
فوقَ الزَّبدْ
(أحدٌ .. أحدْ)
من سيرةِ الصلصالِ
تبدأُ سورةُ الإنسانْ
فَلْتَهْدَئي
يا شهقةَ الروحِ اهْدَئي
وتَهيَّئي للصمتِ في الملكوتْ
لا تَقْرَبي شَجَرًا يُباعِدُ بيننا
بيني
وبينَ اللهِ فاصلةٌ
وحَرْفْ
بيني
وبينَ الأرضِ معصيةٌ
وبابْ
لا تُخرجيني
من فضاءِ الطُّهرِ
إن خفَّتْ موازينُ الكتابْ
فخطيئتي
أنِّي حَمَلْتُ أمانةً
(وأبين أن يحملنها)
وغوايتي
أنِّي اتَّكأتُ على جدارِ
خطيئتي
وأَكَلْتُ من شجرِ الغيابْ
ولقد هَبطتُ من السماءِ
بمفردي؛
وبمفردي
كفَّنتُ ظلِّي بالترابْ.
نص ثان :
كافُ التكوين
للتِّينِ والزيتونِ
سرُّ الكافِ في التكوينِ
سرُّ الحزنِ في موَّالِنا العربيِّ
سرُّ النَّايِ في أرضِ المواجعِ،
والرُّسُلْ
فبأيِّ ماءٍ
سوفَ يملؤني الفراتُ لأغتسلْ؟
مَهْجُورَةً..
يا غابةَ التِّينِ الذي قَطَعُوا يَدَيْهِ
ولم يُقَاطِعْهُ النَّدَى
مَهْجُورَةً..
يا غابةَ الزيتونِ من دفءِ التِّلاوةِ
في الضُّحى
مَهْجُورَةً..
ويداكَ يا عربيُّ
لم تفتحْ كتابَ الغيمِ
أو تَصْفُو لبَوْصَلَةِ البَلَلْ
هل صِرْتَ يا ابنَ الماءِ
نارًا
حينَ تخبو تشتعلْ؟
هل صِرْتَ زادَ الحربِ
في ليلِ الغُزاةِ،
وبردِهِمْ
هل صِرْتَ لُعْبَةَ ليلِهِمْ
وقتَ الهروبِ من المَلَلْ؟
عمَّرتَ نفسَكَ بالخرائبِ،
والمحنْ
وعبدتَ ذاتَكَ في الخفاءِ،
وفي العَلَنْ
وكفرتَ بالأرضِ التي
شدَّتْ إليكَ رِحالَهَا
لتكون ضيفًا في الوطنْ
أصبحتَ يا ابنَ الماءِ ضيفًا
في الوطنْ
وتركتَ أمسكَ عاريًا
تحتَ السماءِ
وفوقَ أرصفةِ البلادِ الباردةْ
هل تذكرُ التاريخَ يا ابنَ الماءِ،
والصحراءِ،
والشهداءِ،
والسِّيَرِ السَّجينةِ في الكتبْ؟
بالأمسِ كنتَ سلالةً
لدمٍ نقيْ
لدمٍ يُفاخرُ بالترابِ،
وبالنسبْ
كانتْ خيولُكَ
تُطْعمُ الصَّحْراءَ زهوَ صهيلِها
كنتَ الدَّليلَ إلى سماءِ
الفاتحينَ
إلى بيوتِ الأوَّلينَ
وكانَ سرُّ التينِ والزيتونِ لكْ
كانت طيورُ اللهِ
من فوقِ المآذنِ تسأَلَكْ
فهلِ الطيورُ الآنَ تعرفُ منزلَكْ؟
الآنَ
لم يُصْبحْ خَراجُ الأرضِ لكْ
فحِصانُكَ العربيُّ
في أرضِ المعاركِ
قَدْ هَلَكْ
والخيلُ والبيداءُ صارتْ تجهَلَكْ
أصبحتَ يا عربيُّ
مثلَ الكذْبِ في شعرِ الغَزَلْ
لا التِّينُ يسألُ عن حقولِكَ
في الصباحِ
ولا المساءُ اختارَ للزيتونِ دَرْبًا
كي يصلْ
فاشربْ دَمِي
كمِّمْ فَمِي
واقرأْ قصائدَكَ الجديدةَ
في المديحِ،
وفي الهجاءِ،
وفي البكاءِ على الطللْ.
نص ثالث :
ميمُ المحطَّة
ليلُ المحطَّةِ
باردٌ
والميمُ نافذةٌ
على كلِّ الدروبِ الهاربةْ
فاجلسْ هنا،
واسمعْ بكاءَ الأمهاتِ
على الصغارِ الهاربينَ من البلادْ
روِّضْ خطاكَ
وكن نبيَّاً لا ينامُ على الرصيفِ
ولا يجورُ على أحدْ
ليلُ المحطَّةِ باردٌ
والميمُ
تذكرةُ المسافرِ حين يغفو
تاركًا
روحَ الحقيقةِ في الجسدْ
فاجلسْ هنا..
وارفعْ يديكَ عن الهُويَّةِ
فالهُويَّةُ
لن تُفِيدَ الأرضَ إن ضلَّ الولدْ
هل جئتَ من أرضِ الغيابِ
لكي تغيبْ؟
ـ بل جئتُ من أرضِ الذنوبِ
لكي أتوبْ
تَعِبَتْ خُطاي
منَ اعتلالِ الأرصفةْ
حَطَّتْ طيورُ الهمِّ فوقَ حقيبتي
فتركتُ ظلَّ الليلِ خلفَ نوافذي
وعَدَوْتُ سرَّاً للسفرْ
كان الطريقُ متوجًا بالعابرينَ
وكان صوتُ الرعدِ أعلى
من يقيني بالخطرْ
كانت حشودُ البرقِ
تعبرُ من دمي
وتقولُ لي:
لا غيمَ في كفِّ السماءِ
ولا مطرْ
فاتبعْ خطاكَ إلى هناكَ
وكُنْ كسرِّ الظلِّ
إن غابتْ أكفُّ الشمسِ
غابَ
وإن أتاهُ الليلُ من دُبُرٍ
تغافلَ عن وشاياتِ الشجرْ
ـ وهل اتَّبعتَ الظلَّ في وقتِ الغروبِ
لكي تتوبْ؟
بل بعتُ قمحيَ للطيورِ
لكي تؤوبْ
ولكي يظلَّ البيتُ مفتوحًا لها
ورَّثتُ ظلِّيَ
للذين أحبُّهُمْ
وزَّعتُ عمريَ بينهُمْ
وتركتُهُمْ
فوقَ الأسرَّةِ مخلصينَ
لجُرحِهِمْ
ودَّعتُ ساقيةَ الجفافِ
بنظرتينِ
وجئتُ من ليلِ الحقولِ
إلى بلادٍ
لا تروقُ لمن أصابوا
حتفَهُمْ
أرجوكَ لا تجعلْ سؤالَكَ
خنجرًا
واتركْ جوابيَ للذينَ
تركتُهُمْ
قاومْ فضولَكَ بالسكونِ،
وبالغيابْ
ميمُ المحطَّةِ
بابُها عن ألفِ بابْ
ميمُ المحطَّةِ
علَّمتني أن أكونَ كما السرابْ
أرجوكَ لن أجلسْ هنا
فابعد قليلاً
كي أرى وجهَ القطارْ
ليلُ المحطَّةِ باردٌ
وأنا أتوقُ إلى النهارْ.
مقتطفات من مقالات ودراسات كتبت عن تجربة الشاعر السيد الجزايرلي
سيرة الغربة والأحزان.. في (سيرة العطش) للشاعر السيد الجزايرلي
الشاعر والناقد عبده الزرَّاع: مجلة إبداع
(كيف الغريبُ يموت موتاً/ لا يليق به الكفنْ؟/ كيف الغريبُ/ بأيِّ أرضٍ/ يشتهي بعض الوطنْ) هذه الأبيات من قصيدة "عمري.. لا يساوي جنازة" من ديوان "سيرة العطش" للشاعر المصري السيد الجزايرلي، فهي تحمل فلسفة الشاعر عن الغربة التي هي سمة رئيسة في الديوان الذي صدر حديثاً، عن مركز "المحروسة للنشر" بالقاهرة، والذي تأخر صدوره خمسة عشر عاما، فقد كتبت معظم قصائده في بداية التسعينيات، ونشرت في معظم الدوريات الأدبية المصرية والعربية، ولولا أن الشاعر هاجر للعمل في الصحافة الثقافية بالمملكة العربية السعودية منذ عام 1994م، لكان له شأن آخر، فالغربة اختطفته بعيداً عن الوطن، وعطلت مشروعه الإبداعي لفترة زمنية طويلة لحساب عمله الصحافي، إلا أنه بصدور هذا الديوان، الذي يحمل كل جوانب التفوق، وينم عن ثقافة واسعة ومتنوعة، مستقاة من علاقة الشاعر القوية بجوهر التراث العربي والديني، يعود ليضع قدميه بقوة وسط المشهد الشعري العربي، فالقارئ لقصائد هذا الديوان يشعر وكأنها كلها كتبت في الفترة الراهنة، فهي ليست منقطعة الصلة عن الواقع الحالي، بل معبرة عنه أفضل تعبير، وهذه سمة الشعر الجيد، الذي يحمل رؤية متنبئة بالمستقبل، وتكون قصائده متجاوزة للعصر الذي كتبت فيه.
(1) الحزن والغربة:
إن ديوان "سيرة العطش" محتشد بمفردات الغربة ودلالاتها المتعددة، برغم أن معظم قصائده كتبها الشاعر قبل سفره للخارج، إلا أنه كان يشعر بالغربة داخل الوطن، وهذا ما صبغ قصائده بصبغة الحزن والألم، فهو يحمل عذابات الآخرين من البسطاء والفقراء باعتباره صوتاً لهم كواحد منهم.. وهذا يتضح بداية من عنوان الديوان، الذي هو أول عتبات قراءة النص، فالعنوان يدل على القحط والجفاف والفقر، حيث يجعل "للعطش" سيرة باعتبار أن للعطش تاريخ ممتد وأصيل، وقد عزز الشاعر ذلك من خلال عناوين القصائد التي جاءت خير دال على ذلك:
(لا تيأسي.. من قدوم النبي/ عابرٌ إلى الضياع/ فرض الغياب/ بعد النزف بطعنتين/ للموت ألف عباءة/ عمري لا يساوى جنازة/ غيمٌ بكف السماء..إلخ)، فالضياع، والغياب، واليأس، الطعن، الموت، الجنازة، الغيم، وغيرها من تلك المفردات التي انتشرت في عناوين القصائد ومتنها تدل على الحزن والغربة، وتشي بالوهن والضعف والخوف من المستقبل.
يقول في قصيدة: "فرض الغياب":
(غريبٌ/ هو النهرُ، مثلي/ تنامُ الهمومُ على حجرهِ/ ثم تصحو/ إذا صلَّت الشمسُ/ فرضَ الغيابْ/ غريبٌ/ هو النهرُ، مثلي/ ولا شيء يرجوهُ.. غير الترابْ/ هو الآن يشربُ/ فوضى المنافي/ يجمِّعُ بهجتَهُ من رماد الضحى/ ويستدرجُ الموجَ نحو الشواطئ/ تطعنهُ الريحُ من كلِّ صوبٍ/ ويرتدّ صفر اليدين/ فلا الماء طهَّر غربتهُ/ من غبار العطشْ/ ولا الأرض مدَّت له خطوةً/ باشتهاء الرجوعْ).
ويقول أيضاً في قصيدة: (للموت ألف عباءة):
(للموت.. ألف عباءة/ قال الغريبُ/ لكلِّ من شدُّوا الرحال/ لا تصرخوا يوم العطشْ/ لا تحملوا الأوجاعَ من أرضٍ/ لأرض/ لا تكتبوا سفر الوصية فوق منديل/ الوداع).
"الغريب" هو من ترك وطنه وهاجر إلى وطن آخر بحثاً عن حياة أفضل، وذاق مرارة الغربة وعركها، هنا يتخذ الشاعر دور المعلم وينقل خبرته إلى الذين شدُّوا الرحال إلى أوطان أخرى، ألاَّ يخشوا الموت فله ألف عباءة، أي ألف طريقة، ولكنه هو الموت، وكما تقول الحكمة: "تعددت الأسباب والموت واحد" وإذا اشتدَّتْ بكم المحن فلا تصرخوا، بل تحملوا الأوجاع راضين، ولا تحملوها إلى الوطن الجديد، ولا تدونوها في وصيتكم عند الوداع.
لا تكاد تخلو قصيدة من قصائد الديوان من مفردات الحزن والغربة أو دلالاتهما، فالشاعر يستقطر الحزن والألم و يستعذبه، وهما ناتجان عن الغربة التي تسكن نفسه وروحه القلقة.
(2) مرجعيته الدينية:
استفاد الشاعر بشكل كبير من مرجعيته الدينية، وقراءاته المتعددة للقرآن الكريم والتراث الديني، وتوظيفهما بشكل جيد لخدمة مضمون القصائد، فاعتمد على التناص أحياناً والاقتباس من بعض آيات القرآن الكريم أحيان أخرى، بل أتت لغته الشعرية مستقاة من لغة ومفردات القرآن، فتشعر وكأنها مأخوذة منه، وليست غريبة عنه بحال، فجاءت ـ في مجملها ـ بسيطة وجميلة ومنتقاة بعناية تدل على ذوق رفيع، وحساسية خاصة، ومشحونة بفيوضات إلهية ـ إن جاز لنا أن نسميها ـ، فالشاعر ابن بار لهذه الثقافة الدينية، نظراً لنشأته القروية وحفظه لبعض أجزاء القرآن والأحاديث النبوية التي استفاد منها هي الأخرى، فانتشرت تلك المفردات بشكل لافت.. مثلما هو واضح في أولى قصائد الديوان "لا تيأسي من قدوم النبي"، فيقول:
(ومن يقرأ الطمي فاتحةً/ نستعيذ بها من جحود البلاد؟/ نبياً../ سيأتيك وقت الصلاة/ سيدعوكِ للصفح/ أو للتمني)
ويقول في موضع ثان في القصيدة:
(وهل كنت شيخاً/ توضأ من نزفه/ ثم صلى صلاة الغيابْ؟/ نبياً.. عصاكِ بلا حجة/ ثم تابْ/ سيأتيك وقت الصلاة/ فلا تجحديه)
ويختتم القصيدة قائلاً:
(سيقرع يوم الجنازة طبل الزفاف/ يجاهر بالحزن حتى يراكِ/ تمرين كالبرق فوق الصراط البهي/ وكالنهر ليلاً/ يطوف على طمينا السرمدي/ نبياً../ سيأتيك وقت الصلاة/ فلا تيأسي.. من قدوم النبي)
هنا يبشر الشاعر بقدوم النبي (المخلص) من الأحزان المعربدة داخل النفس وداخل الوطن، ، أما في قصيدة "فرض الغياب" فقد استفاد من قصة سيدنا يوسف عليه السلام، ووظف مفرداتها:
(كيف استرقت الشموس/ من عين السماء/ ثم انكسرت على نوافذ غرفتي؟/ كيف اغتسلت/ على جوانب جب يوسف/ بالكذب/ وقرأت طعم الخبز بعضاً/ من نبات المستحيل؟)
ويعود لتوظيفها مرة أخرى في قصيدة "طلقة قبل الغياب" وذلك لخدمة مضمون القصيدة.. فيقول:
(هنا القاهرة/ تقدُّ قميصَ التقى امرأة/ وتشعل فتنتها للنساء/ فيسلمن أيديهن/ إلى عنفوان النزيف/ (هنا القاهرة)/ يلفُّ العزيز انكسار الخطيئة/ بالهم، والحكمة المشتهاة/ ويصعد فوق السنين/ بألف عجاف/ لينساب ليل الفصول/ على شهقات الخريف).
وفى نهاية هذه القصيدة يوظف موت الحسين عليه السلام، في قوله:
(تغني لغيري،/ وتصفو لغيري/ وتسكر ليلاً..(بدم) الحسين).
كما وظف أيضاً سورة مريم:
(ومن أول الغيم/ يرعد../ يرعد/ كيما يهز النبوءة/ في نخلك المريمي/ ويشرق/ من صرخة الأرض طمي نبيل/ فيا أول الطلق/ لن يحضن الأرض وسم/ بخيل)
وفى قصيدة "لا تحدق في عيون الأنبياء" يعود الشاعر ليوظف قصة مريم بشكل مختلف يخدم فكرة القصيدة، ويعطيها شحنة درامية عالية.
(فنثرت فاتحة الحلالِ/ على غلالي/ واتخذت مكان مريم/ حين فاجأها المخاض/ هززت جذع الوقت منتظراً/ تفاصيل الشروق.../ فاسَّاقط الحلم القديم/ على نوافذ عتمتي).
(3) التناص:
عمد الشاعر إلى التناص من القرآن الكريم والأحاديث وقصائد الشعراء الآخرين، لتثري تجربته الشعرية، وتدل على سعة اطلاعه واستيعابه الجيد للتراث ولإبداعات الآخرين، ليصبح أحد سمات الديوان، وقد اعتمد الشاعر على توظيفه لخدمة المضمون وفكرة القصيدة، فلا تشعر أنها جاءت زائدة، بل أتت في مكانها بالضبط لتضيف بعداً فنياً جديداً وعمقاً دلالياً للقصيدة، فنرى التناص من القرآن في أكثر من قصيدة داخل الديوان، حيث ترد آية من آيات القرآن داخل سياق القصيدة، كما جاء في قصيدة: "رمل الخطيئة ساخن":
(كنا نغازل همَّنا (رغم) الحصار/ ونعلِّم الأطفالَ ترتيل النشيد/ يا صاحبي../ (فعال لما يريد)/ صرنا نكفن حلمنا بالمستحيل).
ويقول أيضاً في قصيدة "طلقةٌ قبل الغياب":
(وتلعن بالصهد طلَّ الضحى/ (والليل إذا سجى)/ كأني أرى النهر صبَّارة/ عتَّقت مرها للفطام).
وآخر هذه الاستخدامات أتت في قصيدة: "حفنةٌ من وجع البحيرة":
(وتقول في صوتٍ تَعِبْ:/ المجدُ كيف لمن غلبْ؟/ ولمن سلبْ؟/ (تبت يداه أبو لهبْ)/ كيف استباح مفاتني/ ثم انسحب).
أما الاقتباس من الحديث الشريف، فأتى في قصيدة واحدة، هي "صوموا تصحوا" وهو حديث شريف أتى به عنواناً للقصيدة، وعاد واستخدمه داخل متن القصيدة مرة ثانية.
أما عن التناص من شعراء آخرين فقد أتى به أكثر من مرة داخل الديوان، ووظفه بشكل جيد يحسب له، لدرجة أن قارئ الديوان لا يشعر أنه تناص من ديوان آخر، ففي قصيدة: "لا تيأسي ..من قدوم النبي" وظف مطلع النشيد الوطني المصري الشهير (بلادي.. بلادي) الذي ألفه الشاعر الشيخ يونس القاضي، وغناه فنان الشعب "سيد درويش" وتوارثته الأجيال جيلا فجيلا، لدرجة أنه أصبح في مقام التراث الفني.
كما استفاد من قصائد الشاعر المصري "محمد الشهاوي" ووظفها داخل متن قصائد الديوان يقول: (الآن لم تعد البلاد.. هي البلاد)، ويقول في مكان آخر من أشعار نفس الشاعر: (يا أيها الطيف الذي كان المغني)، كما أورد مقطعاً من قصيدة "مرثية الخلود" للشاعر المصري السيد غازي، ووضعها في مطلع قصيدته "صوموا تصحو" يقول: (من كان يدرك (أن ذاك الصدر يحمل نافرين/ صبحاً من الأنداء/ والسيف الذي قتل الحسين).
(4) الشكل الفني:
تنتمي قصائد هذا الديوان إلى القصائد المدورة، والتي لا يستطيع أي شاعر كتابتها، وقد أتقن الجزايرلى كتابتها ببراعة يُحسد عليها، وكأن كل قصيدة كتبت دفقة واحدة. كما جاءت صوره الجمالية بكراً وطازجة طزاجة نسيم البحر والبحيرة، التي يمتلئ بهما الديوان مستفيداً من مفردات البيئة التي نشأ وتربى فيها (بيئة الصيادين)، وهو العليم بمسالكها ودروبها، ومكامن جمالها، لتضفي على الديوان بقصائده الست عشرة، خصوصية وفرادة، فتجد مفردات هذه البيئة واضحة جلية، وقد خصص الشاعر قصيدة كاملة عن البحيرة بعنوان: "حفنةٌ من وجع البحيرة" وهى من أروع قصائد الديوان وأقربها إلى الروح والوجدان بما تحمل من صدق شعوري وفني.
المشهد الشعرى بين لغة الوجع وصياغة الحلم
فى ديوان "أبجدية الوجع ـ الجزء الأوّل" للشاعر السيد الجزايرلي
الشاعر والناقد محمد علي عزب: أخبار اتحاد الكتَّاب
(1)
الطاقة الإيحائية للحروف والمفردات الرموز فى ديوانه " أبجدية الوجع ـ الجزء الأول " الصادر عن دار الأدهم للنشر 2014م يستثمر الشاعر السيد الجزايرلي الإمكانيات الإيحائية والرمزية لأبجدية الحروف العربية، ويصوغ منها شكلا فنيا دالا يميز تجربته في هذا الديوان الذى يحتوى على ثلاث عشرة قصيدة هي الجزء الأوّل من أبجدية الوجع، وهذا العدد ـ ثلاثة عشر ـ هو نصف عدد حروف الأبجدية العربية ويتكون عنوان كل قصيدة من حرف أبجدي متبوعا بكلمة معرفة مثل "ميم المحطة"، والتعريف هنا يؤكد على التحديد والتلازم بين المسند والمسند إليه فيصبحان دالا واحدا، ولا يخضع تسلسل القصائد لترتيب حروف الأبجدية العربية أ ب ت ...إلخ، فتسلسل القصائد على النحو التالي: كاف التكوين، باء البلاد، خاء الخلافة، حاء الحرب، شين الشهيد، جيم الجنازة، واو الوداع، راء الرؤى، سين السلام، دال الجسد، عين العمى، نون الميدان، ميم المحطة، ويخضع هذا التسلسل لشروط ومحدّدات الرؤيا الشعرية وتشكيلها فنيّا بأدوات الشاعر السيد الجزايرلي، فهناك خيط درامي ناظم لهذا التسلسل، فبداية أبجدية الوجع بقصيدة " كاف التكوين" ونشأة ذلك الوجع والحزن الناتج عن انكسارات الذات العربية عبر تاريخها حيث يقول:
بالأمسِ كنتَ سلالةً
لدمٍ نقيْ
لدمٍ يفاخرُ بالترابِ
وبالنسبْ
كانت خيولكَ
تُطْعِمُ الصَّحْراءَ زَهْوَ صَهِيلها.
ويقول في نهاية هذه القصيدة:
أصبحتَ يا عربيُّ
مثل الكِذْبِ في شِعْرِ الغزلْ
وينتهي الجزء الأول من أبجدية الوجع بقصيدة "ميم المحطّة " التي تشير إلى السفر والانتقال، حيث يقول الشاعر:
ليلُ المحطَّةِ باردٌ
والميمُ تذكرة المسافرِ
حين يغفو
تاركاً
روح الحقيقة فى الجسدْ.
وبين البداية والنهاية يشكل كل عنوان علامة شعرية تهمين على مسار إنتاج الدلالة في النصّ، وبؤرة جديدة ينفجر منها التوتر الشعرى المعبر عن تتابع التحوّلات الدرامية التي تتصل ببعضها البعض لتشير إلى الوجع الذاتي للشاعر المشتبك بالوجع الوطني والقومي في تراجيديا الذات، الأرض، الذاكرة، الحلم، الثورة، والشاعر هنا لا يرتدي عباءة الحكيم العالم بباطن الأمور، بل يقدم تجربة شعورية عاشتها الذات الحاضرة في كل نصوص الديوان.
ويضيف الناقد في الجزء الثاني من دراسته:
(2)
الشاعر بين الوجع والنبوءة
عبر الوصف المقرون بالحركة والسرد الشعري التشخيصي الذى يعتمد على التجسيد والتشخيص والمجاز، يقوم الشاعر السيّد الجزايرلي في ديوانه "أبجدية الوجع ـ الجزء الأوّل" بنسج شبكة المتخيل الشعرى ولملمة أوصال القصيدة، حيث يشخّص ويحكي عن ضراوة وشراسة الوجع في سرده الذي يدمج فيه الشاعر الراوي المتموقع في قلب المشهد الشعرى بين الزمن الحاضر والماضي عبر تقنية الاسترجاع الزمني كما في قصيدة "جيم الجنازة ".
ومثلما يتردد زمن السرد بين الماضي والحاضر فإنه أيضا قد يتجه إلى الأمام ويصبح سردا استشرافيا يعبر عن تطلّع الشاعر إلى المستقبل، وقدرته على أن يشكّل من الوجع حلما ونبوءة كما في قصيدة "شين الشهيد".
وفي الجزء الثالث من دراسته يقول الناقد:
(3) جماليات إخراج المشهد الشعرى
في بنائه وإخراجه للمشهد الشعرى الذى تتحوّل فيه المفردات الرموز في "أبجدية الوجع" من ثيمات معنوية مجرّدة إلى معطى (تصويري/ تمثيلي) يخاطب الحواس، غالبا ما يستحضر الشاعر السيد الجزايرلي المؤثرات الصوتية في مقدمة القصيدة، ثم تأتي الحركة للربط بين الصوتي والبصري باعتبار أن الحركة لها بعد صوتي وبعد مرئي في تمثيل وتجسيد الفعل والسلوك، ثم تبدأ المرئيات والمؤثرات البصرية في الظهور والاندماج بالمؤثرات الصوتية التي يأتي في مقدمتها تفعيلة الكامل "متفاعلن" التي تشكّل الخلفية الموسيقية لجميع قصائد الديوان، وفى نهاية القصيدة يركّز الشاعر على حضور المؤثرات البصرية وسيطرتها على المؤثرات الصوتية، وينطوي هذا الأسلوب في الإخراج على نوع من التشويق والجذب، فكأن القارئ يسمع صوتا يخاطبه من خلف ستار فينتبه لهذا الصوت، ويتطلّع لرؤية ملامحه، ثم يرى اهتزاز الستار أثناء رفعه فتزداد درجة التشويق، ثم يرى ملامح صاحب هذا الصوت وهو يتكلم أو يغنى ويتحرك أمامه، ثم في النهاية يكون التركيز على الملامح المرئية، ويمكن أن نعتبر أن الديوان مشهد شعري كبير قياسا على مقولة أن القصيدة استعارة كبرى، وبناءً على ذلك تكون مقدمة القصيدة الأولى هي بداية المشهد الكلي للديوان، ونهاية القصيدة الأخيرة هي نهاية هذا المشهد، حيث يقول الشاعر السيد الجزايرلي في مقدمة قصيدة "كاف التكوين":
للتينِ والزيتونِ
سرُّ الكافِ في التكوينِ
سرُّ الحزنِ في موَّالنا العربيُّ
سرُّ الناي في أرضِ المواجعِ
والرُسُلْ.
وبعد استحضار المؤثر الصوتي "الموّال العربي" و "سرُّ الناي"، يأتي عنصر الحركة فيقول الشاعر بعد ذلك:
فبأي ماءٍ
سوف يملؤني الفراتُ لأغتسلْ؟
وفي الجزء الرابع من دراسته يضيف الناقد:
(4) التناص وتحوّلات الرمز التراثي
إن حضور الرمز التراثي في ديوان "أبجديات الوجع ـ الجزء الأوّل " لا يشير إلى حالة ماضوية استدعاها الشاعر السيد الجزايرلي ليجعل منها فردوساً مفقوداً أو حائط مبكى للوجع، ولكن هذه الرموز استدعاها الشاعر لتشارك في تجسيد لحظة شعورية تخصّ واقعه الآني المعيش، حيث أنها تمارس تحولاتها عبر استحضارها من الماضي وتوظيفها في سياق شعري يُكسبها دلالات جديدة، ففي قصيدة "راء الرؤى" يوظّف الشاعر السيد الجزايرلي قصة النبي يوسف وإخوته ويمزج بين رؤياه وحلمه بالثورة وبين رؤيا النبي يوسف في المنام التي رأى فيها أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا له ساجدين، ، كما يمزج الشاعر بين رواية إخوة يوسف لأبيهم بأن الذئب أكله، وبين رواية ضياع حلم الثورة.
وفى تطلعه للمستقبل واكتمال حلم الثورة يمزج الشاعر السيد الجزايرلي بين رؤياه الخاصة ورؤيا النبي يوسف، فيتحوّل الرمز التراثي الذى يربط بين الماضي والحاضر في لحظة آنية إلى بشارة ونبوءة بالمستقبل.
ويقيم الشاعر حوارا تفاعليا مع الرموز التراثية عبر الأسئلة التي يتشابك فيها التاريخي بالواقعي المعيش كما في قصيدة "خاء الخلافة" التي تناول الشاعر فيها علاقة الشعب بالحاكم، حيث يستحضر الشاعر السيد الجزايرلي رمز الخلافة نظام الحكم السياسي في التاريخ الإسلامي، ويمزج بينه وبين الحاضر الراهن فيقول:
هل نحنُ نختار الخليفةَ
والإمامَ
كما نريدْ؟
أم نسألُ المكّيَّ عن وَحْىٍ
جديدْ؟.
عـن الخـديعـة الــتي تسـمَّى الحيــاة.. السـيد الجـزايـرلي.. في ديوان "مِسْك الغياب"
الناقد الدكتور عبد النـاصر عيســوي: مجلة الإذاعة والتلفزيون
هذا ديوان صادر حديثًا بعنوان "مِسْك الغياب" للشاعر السيد الجزايرلي، وهو شاعر مصري؛ من مواليد 1967م، ويقيم في المملكة العربية السعودية منذ عام 1994م. وقد صدر له في مصر من قبل ديوانان هما "سيرة العطش" و"أبجدية الوجع". وكان مقررًا صدور ديوانه الأول "حفنة من وجع البحيرة" منذ عام 1995م، إلا أنه لم يصدر حتى الآن. وله مسرحية بعنوان "عودة هاملت" عُرضت في مهرجان المسرح السعودي عام 2012م، كما أنه يمارس النقد الأدبي والفني، فيكتب حول الشعر والسرد والمسرح والسينما والفنون التشكيلية، وأصدر بعض الكتب النقدية؛ منها: "طوق الياسمين" في التوثيق الأدبي حول التجربة الغنائية في شعر نزار قباني. وكتاب "سفينة الأحلام الضائعة" في التوثيق السينمائي حول الفيلم الشهير "تايتنيك" يثبت وجود عدد من العرب على متن السفينة الغارقة، ولم يتطرق لهم الفيلم.
يُعَدُّ الديوان الذي بين أيدينا الجزء الثاني من "أبجدية الوجع"؛ التي قام الشاعر فيها بالتنويع على الحروف العربية، ويضم هذا الجزء الأخير خمس عشرة قصيدة تفعيلية، تسجل معاناة الإنسان المعاصر واغترابه وألمه وفجيعته من الخديعة التي تُسمَّى الحياة؛ حيث يتلخص مصير إنسان هذا العصر في عودته من الغياب إلى التراب، بل دون وداع، وتلك هي الخديعة، حيث يقول الشاعر في قصيدة بعنوان "ضاد الغياب":
"عادَ الغريبُ/ من الغيابِ إلى الترابْ/ فتحلَّقوا يومَ الجنازة حولَهُ/ كفٌّ تُلامسُ نعشَهُ/ صوتٌ يرتل شِعْرَهُ/ أمٌّ تُهرولُ خلفَهُ/ وتقولُ: يا ظهري الذي/ حَمَلَ الفجيعةَ وانكسرْ/ ما كنتُ أعرفُ أنَّ شمسَ الموتِ/ تشرق/ من جَوَازاتِ السفرْ/ عشرون عامًا غبتَ عنِّي/ واحتملتُ على مضضْ/ أوَ لم يكُنْ من حَقِّ أمِّكَ فرصةٌ/ لتودِّعَكْ؟/ أوَ لم يكن من حقنا يومًا معَكْ؟/ يومًا وحيدًا/ كيْ نعيشَكَ للأبدْ؟/ أوْ ساعةً/ قبل انطفاءِ الرُّوح/ في ماء الجسدْ؟/ باللهِ يا أمي اهدَئي/ كلُّ المنازلِ/ عتَّقتْ خمرَ الخديعة/ في عيون الأمهاتْ/ كل المرايا/ حلَّقتْ فوق البياضِ/ خطيئةً لا تُغتفَرْ/ وأنا اقترفتُ الْهَمَّ حَيًّا/ حِينَ خانَ الصبحُ ليلَ قبيلتي/ ورأيتُ سُكانَ الخيامِ/ بلا مطرْ".
ويرسم الشاعر صورة للخطيئة التي يرتكبها إنسان هذا العصر؛ وهي الغياب؛ والوحدة التي يعاني منها، في قصيدة بعنوان "فاء الفَخَّار"، فيقول:
"بيني وبينَ اللهِ فاصلةٌ/ وحَرْفْ/ بيني وبينَ الأرضِ معصيةٌ/ وبابْ/ لا تُخرجيني/ من فضاء الطُّهْرِ/ إنْ خَفَّتْ مَوَازينُ الكتابْ/ فخطيئتي/ أني حَمَلتُ أمانةً/ (وأبَيْنَ أنْ يحمِلْنَها)/ وغوايتي/ أني اتكأتُ على جدارِ خطيئتي/ وأكلتُ من شجر الغيابْ/ ولقد هبطتُ من السماء/ بمفردي/ وبمفردي/ كفَّنتُ ظِلِّي بالترابْ".
كما أن (الانكسار- الغياب- الغرباء- وَهْم الرجوع) مفردات اغتراب إنسان هذا العصر، حيث يقول الشاعر في قصيدة بعنوان "همزة الغرباء":
"في الهمزة انكسرتْ/ حروفُ قصيدتي/ وحقيبتي/ ظَلَّتْ كبابٍ/ لا يقودُ من الغيابِ/ سوى الغيابْ/ بابٌ يرد طريدةً/ قطعَتْ سماءَ الأمنياتِ/ على مهَلْ/ يا هَمزة الوَصْلِ اخرُجي/ من غير سُوءٍ/ لَمْلِني كذب الحقيقةِ/ واخرُجي/ فالمقعَدُ الخشبيُّ ذاكرةٌ/ تئِنُّ/ ولا تشيخْ/ سأشاركُ الغرباءَ كِسْرةَ خُبزهِمْ/ سأصُبُّ أحلامَ الوصولِ/ لمن يرى في الليلِ أحجارَ الطريقْ/ تعِبَتْ خُطايَ من القطيعةِ/ وارْتَمَى ظِلِّي/ على وَهْمِ الرُّجوعْ".
وتتنوع مفردات الاغتراب لتصير (الغُربة- الموت- تأجيل الأحلام) وغير ذلك؛ كما في قصيدة بعنوان "تاء التلاوة"؛ حيث يقول الشاعر:
"ماذا تُخَبِّئُ للغريبِ/ سوى القلادةِ يا وطنْ؟/ ماذا سيفعَلُ بالقِلادةِ مَيِّتٌ/ يحيا على شوق الحقيبةِ/ للسفَرْ؟/ يغفو على دفء التلاوةِ/ في المطرْ؟/ ويؤجل الأحلامَ كيْ ينسى الرجوعْ؟/ ماذا سيفعَلُ بالقلادةِ/ ميِّتٌ/ ترَكَ الجنازةَ/ كيْ يُريحَ الناسَ من مِلْحِ، الدموعْ؟".
فماذا يا ترى تفعل القلادة في الموت وماذا سيفعل بها الميت؟ سؤال يظل بلا إجابة حتى نهاية القصيدة؛ حيث يقول:
"يا شاهِدَ القبْرِ انتظِرْ/ تاءُ التلاوةِ قد تقاسِمُني الفَراغَ/ وقد أحلِّقُ فوقها/ كالنقطتيْنِ/ بلا جَناحٍ/ أوْ سماءٍ/ أوْ كفَنْ/ ماذا سيفعَلُ بالقلادةِ/ ميِّتٌ/ قطع الطريقَ إلى الحياةِ/ بلا وطن؟".
لقد صار إنسان هذا العصر فاقدًا للروح، أو مغيَّبَ الروح في انتظار مجيئها، حيث يقول الشاعر في قصيدة بعنوان "ظاء الظل والظمأ":
"والرِّيحُ تحملُني إليكِ/ ضَحِيَّةً/ فاسْتقبِلي جَسَدِي/ بلا دمعٍ/ يُؤرِّخُ للشهادةِ/ بالبكاءْ/ جسَدِي سيأتي فارغًا/ من رُوحِهِ/ والروحُ من وقتٍ لآخَرَ/ قد تعود من الغيابْ".
ويأخذ الاغترابُ بُعدًا عربيًّا معاصرًا لا يليق به إلا الرثاء؛ كما يقول في قصيدة بعنوان "زاي الغريزة":
"وقرأتُ في رؤيا السقوطِ/ خريطتي/ كلُّ البلادِ أصابَهَا داءُ الوَهَنْ/ جَفَّتْ جذوعُ النخل في أرض العراقِ/ فأينعَتْ سُحبُ الدخانْ/ ضاقتْ حقولُ الشامِ/ فاشتَدَّ الترابُ على بياضِ الياسمينْ/ حَجَبَتْ سماءُ المغرب العربيِّ/ صوتَ النايِ/ فارتَدَّ الصدى/ حجَّتْ طيورُ الحزنِ لليمن السعيدِ/ ولم تجدْ دفئًا هناكْ/ هرَبَتْ خيولُ الظل/ من شمس الخليجِ/ ولم تعُدْ/ والقمحُ في مصر ارتدى ثوبَ الحدادْ/ وأنا الرمادُ/ أنا الرمادُ/ أنا الرمادُ/ خرجتُ من حطب المعارك/ نطفةً/ وكسوتُ عظمي بالرمالِ/ خرجتُ من حطب المعاركِ/ فتنةً/ وغسلتُ من هَمِّي يدِي".
ولا يفقد الإنسان الأمل في القضاء على اغترابه. فالشاعر يقترح الحب والالتئام ليستطيع الإنسان القضاء على اغترابه الأزلي؛ في قصيدة بعنوان "غين الغواية"، فيقول:
"قُمْ وانْسَ أصداءَ الغوايةِ/ والهبوطَ من السماءْ/ فالأرضُ لكْ/ وغريزةُ البَشَريِّ لكْ/ والآنَ/ مِنْ أرضِ السلالاتِ الجديدةِ/ سوف تبدأ رحلتَكْ/ حَوَّاءُ/ تبحثُ عن مكانكَ/ فانتظرْها في المساءْ/ رَتِّبْ مَسَاءً هادِئًا/ وابدَأْ حياتَكَ/ مِنْ تفاصيلِ اللقاءْ".
وقد يكون القضاء على الاغتراب بالثورة على الطغاة من البشَر؛ كما يرى الشاعر في قصيدة بعنوان "صاد الوصية"، حيث يقول:
"لا تَنْسَ أنَّ الموتَ/ حُلمُ الهاربين من الحياةِ/ وأنهمْ/ لن يشتروا بالنهرِ حَبَّاتِ المطرْ/ لا وَرْدَ يخرجُ/ من خلايا الأرضِ/ إنْ ضَلَّتْ طريقَ النَّهْرِ/ حَبَّاتُ المطرْ/ لا تنْسَ أنَّ سُلالةَ الفَخَّارِ/ من صُلْبِ الحجرْ/ وسلالةُ الفَخَّارِ شَعْبٌ/ قد يثُورُ على الطغاةِ/ من البَشَرْ".
ولعل هذا الديوان يكشف لنا عن شفافية عالية في رؤية الشاعر، هي التي تجعله يصطدم بأفاعيل الحياة؛ ليكتشف أنها الخديعة، لكن قاموسه محمَّل بذكريات شفافة، فلا مَفَرَّ من شعوره بالاغتراب، ولا مفر من محاولة القضاء عليه.
مواقع التواصل الاجتماعي مواقع تجسس تبيع بيانات المستخدمين
نعم
69%
لا
20%
لا أعرف
12%
|
المزيد |