الأول، هو المشير محمد حسين طنطاوي، كان قائد كتيبة في حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، وقبلها شارك بدور مركزي في حرب الاستنزاف، كما لعب دورا مهما في حرب تحرير الكويت.
تولى طنطاوي وزارة الدفاع بعد يوسف صبري أبوطالب، فأعاد للجيش المصري انضباطه، وعزز كفاءته وقدراته، ولا نبالغ لو قلنا إنه أعاد بناء الجيش من جديد، والأهم من ذلك أنه حافظ على الجيش كمؤسسة أمنية وعسكرية وتنموية، بدلا من أن يكون مؤسسة اقتصادية وتجارية، إضافة إلى ذلك، فقد أكد دور الجيش في حماية الوطن، بدلا من حماية نظام أو حزب أو سلطة أو شخص أو عائلة.
آل حكم مصر إلى المشير محمد حسين طنطاوي بعد ثورة 25 يناير 2011، ولو أراد المشير النزول إلى انتخابات الرئاسة لربحها باكتساح، لما يرمز إليه كقيمة لا كشخص، فالرجل إنجازاته كوزير للدفاع ليست خافية على أحد، وموقفه المعادي للتوريث معروف، كما أنه حين تم تخييره بين الشعب والنظام، اختار الشعب.
زهد المشير طنطاوي في السلطة، وأشرف على أنزه انتخابات نيابية ورئاسية شهدتها مصر منذ ثورة يوليو 1952. وبعد ذلك سلّم الأمانة مرتاح الضمير، فمسيرته العسكرية والسياسية أكثر من مشرّفة، ونزاهته الشخصية، وانضباط المؤسسة العسكرية في عهده لا غبار عليهما.
ما آلت إليه أوضاع مصر تجعلنا نستذكر المشير طنطاوي بكل عرفان وتقدير، ولعلنا نندم اليوم على عدم الاستماع لنصيحة الصحفي الخبير محمد حسنين هيكل، حين رشّح (طنطاوي) لرئاسة الجمهورية في حواره الشهير المعنون بـ”عودة الأهرام لرائدها” بعد ثورة يناير. قيل للمشير بأن التاريخ سيتهمه بتسليم مصر للإخوان، فرد قائلا “بل سيذكر التاريخ بأنني من سلم الإخوان لمصر”، وهذا ما حصل.
وما يستدعي استذكار المشير محمد حسين طنطاوي أيضا، ما يفعله جنرال آخر في لبنان، هو ميشال عون، والحقيقة أن سرد تاريخ عون بموازاة تاريخ المشير، إهانة كبيرة في حق طنطاوي لولا اقتضاء الظروف والأحداث.
مسيرة الجنرال عون كعسكري لم تعرف إلا الفشل والعار، فحين نقرأ مذكرات القائد الأسبق للجيش اللبناني (العماد إبراهيم طنوس) نجده لا يصف عون إلا بالجبن، لا نعرف لعون معركة عسكرية ناجحة، فحرب التحرير انتهت بهزيمة مذلة، وحرب الإلغاء لا تذكر إلا بالخزيّ.
حين نقرأ سلسلة آلان مينارغ عن حرب لبنان، ومذكرات الرئيس إلياس الهراوي وغيرها، نلحظ أن عون لعب دورا رئيسيا في توريط المسيحيين بالعلاقة مع إسرائيل، بل كان يحذر بشير الجميّل من أنه يرى كل الخطر في الابتعاد عن إسرائيل، مطالبا باتفاقية دفاع مشترك ضد الأخ اللبناني قبل الأخ العربي، ويزعم الجنرال في مسلسله الكاريكاتوري أو برنامجه الفكاهي (الرواية الكاملة) – الذي يقدمه مسخ إعلامي وسياسي يدعى جان عزيز – بأنه التقى ضابطا إسرائيليا فحذره من أي احتكاك بين الجيش الإسرائيلي وفرقة عون، ﻷن مغبة ذلك ستكون “المواجهة بلا هوادة”، لكنك حين تقرأ ما كتبه مينارغ وطنوس ستجد العكس، ومن ذلك هذا النص “اعتاد الكولونيل عون – قائد اللواء الثامن بالجيش اللبناني – أن يتجول في دوريته برفقة ضباط إسرائليين”. كل هذا غير الصورة الفضيحة التي نشرتها الصحف اللبنانية مظهرة عون مرحبا بدخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت.
لم يكن مطمح عون في الحياة سوى تولي وزارة الدفاع، لكن الرئيس أمين الجميّل ارتكب خطيئته التاريخية حين عيّن الجنرال رئيسا لحكومة عسكرية. ومنذ ذلك الحين أصبح منصب الرئاسة هاجس عون ولعنة لبنان.
حين حكم ميشال عون بعض لبنان إبان حكومته العسكرية، وثّق بطريرك السيادة والاستقلال، مار نصرالله بطرس صفير، في مذكراته تلك الحقبة السوداء، فالقيود فُرضت على الإعلام وعلى الساسة، وارتفع صوت الغوغاء، مما دعا صفير إلى لعن الحكم العسكري، مرات ومرات، في مذكراته.
والغريب أن من يزعم الدفاع عن حقوق المسيحيين اليوم، هو من حرّض أنصاره على الاعتداء على بكركي وسيدها بالأمس!. ومن يزعم عشق المواجهة تخلى عن جنوده وأسرته فارا إلى السفارة الفرنسية حين أطبق عليه الجيش السوري، ولا ننسى أنه ساهم في تكريس الوصاية السورية عبر تعنّته في وجه اتفاق الطائف، كان عون منعما في فرنسا، وكان أنصاره يعانون من بطش نظام الوصاية، وخصمه سمير جعجع رهن الاعتقال السياسي التعسفي، ومع ذلك عقد عون صفقة مع خصوم الأمس عبر السياسي الثعلب كريم بقرادوني، وعاد تابعا لبشار الأسد ومشرعنا للوصاية الإيرانية على لبنان عبر تغطية سلاح حزب الله وجرائمه.
سيرة عون السياسية متقلبة بين الموقف ونقيضه، إنها مثال صريح على السياسي الذي تتحول مصالحه الشخصية إلى “مبادئ”، فلا بأس من الزج بجنوده في معارك مذلة أو خاسرة من أجل مجده الشخصي، ولا بأس من التحصّن بالمدنيين العزل حتى لا يخرج من قصر بعبدا لتتسلم الحكومة الشرعية قيادة الدولة، ولا بأس من التحالف مع البعث، والاستقواء بسلاح حزب الله لتأمين الزعامة وربما رئاسة الجمهورية، ولا بأس من استغلال الغريزة الطائفية لتنصيب الأصهار في مواقع مستحقة أو غير مستحقة، ولا بأس بتعطيل الدولة من أجل المنفعة الخاصة أو احتكار السلطة، فالجنرال عون – بكل تواضع – يظن أن المسيحيين مختزلون في أسرته ولبنان كله مختصر في شخصه، وجمهوره مثال تطرف وإحباط وسوء حظ.
إن التحركات العونية التي شهدها لبنان، مؤخرا، ليست جدية أو مؤثرة، ﻷنها مجرد مقدمة لانقلاب حزب الله “الحوثي” في لبنان، فالكلام قديم عن نسف اتفاق الطائف باتجاه المثالثة بدلا من المناصفة، أو بشكل أدق، المناصفة الإيرانية – البعثية لبنانيا، بدلا من المناصفة الإسلامية – المسيحية.
والحجج جاهزة حتى لو كان “الثوار” هم أسبابها، كتعطيل انتخابات الرئاسة، والصورة النهائية مرهونة بتطورات الثورة السورية، والمفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة.
إن المؤسسة العسكرية العربية قدمت نماذج مشرفة تستحق الفخر والتقدير، ومنها المشير محمد حسين طنطاوي في مصر وقبله المشير محمد الجمسي، ولبنان قدم فؤاد شهاب ثم ميشال سليمان، ولا يجوز أن نظلم هذه الأسماء المحترمة بوضعها في خانة واحدة مع “الجنرال” عون وأشباهه وأمثاله، يكفي أن حليف اليوم السيد حسن نصرالله (أمين عام ما يسمى بـ“حزب الله”) قال عن عون في صحيفة النهار في عدد 6 نوفمبر 1989 “ميشال عون مشكلة، لأنه حالة إسرائيلية صدامية وتدميرية، ولا يرى إلا مصالحه الشخصية ومصالح طائفته. هو النهج الماروني العنصري في الشرقية”.