السماء صافية، والجو شتائي يرسل البرودة المنعشة التي تساعد الذهن على التجدد، وتساعد الجسد على الانتعاش. الشوارع تبدو من الشرفة خالية، وكأن هناك مباراة كرة قدم تلصق الجميع في منازلهم.
كان هدفي الأول في هذه الرحلة زيارة القصر الملكي، إميلين بورج Amalienborg Place، ومحاولة مقابلة ملكة الدنمارك مارجريت الثانية، أعلم أن ذلك صعب، فمقابلة الشخصية الأولى في البلاد تستلزم ترتيبات معينة ليست من السهولة بمكان، ولا يمكن أن أكون مقيما في الدنمارك لمدة قصيرة، وأطلب عند حضوري مقابلة ملكة البلاد فتلبي .. مستحيل، إن ذلك ربما يكون صعباً على رؤساء الدول، فما بالك بصحفي على باب الله مثلي، ولكني كعادتي أعشق المحاولة.
في الشقة الهادئة التي أقطنها في حي فودوفغا ساعدتني ماريا في إعداد رسالة للملكة، وأخرى لوزير الثقافة أطلب فيهما مقابلتهما للغرض نفسه، وهو إجراء حديث صحفي لمجلة عربية، وفي اليوم نفسه أرسلت طردين إلى كل منهما يحتويان على نسخ من كتبي، ونسخ من المجلة التي أعمل بها، قلت محاولاً تركيب جملة إنجليزية سليمة If you want to succed try أي "إذا أردت النجاح حاول".
في اليوم التالي سألت عن موقع القصر، فأخبروني عن وسيلة الانتقال إليه وهي الأتوبيس رقم (9)، ولكني كنت أفضل المشي دائماً على ركوب المواصلات، لأن المشي يساعدك على اكتشاف الأمكنة والشوارع، هذه المتعة سوف تتبدد حتماً إذا ركبت سيارة أجرة أو أتوبيساً.
بعد مشي عدة كيلو مترات وصلت إلى القصر الملكي "إميلين بورج" مقر الملكة مارجريت الثانية ملكة الدنمارك، سيدة في العقد الخامس من العمر تقود هذه البلاد بحكمة وقوة تذكرنا بقوة شجرة الدر، استطاعت أن تحقق الكثير للشعب الدنماركي، وأن تحافظ على خصوصية هذا الشعب، والناس هنا يحبون الملكة، ويرحبون باستمرار الأسرة المالكة.
ترى ماذا يحدث لو تولت المرأة رئاسة الدولة، أعتقد أن الأمر سيكون مختلفاً، لأن المرأة نجحت في إدارة المنزل، ومن ينجح في إدارة اقتصاديات الأسرة ينجح في إدارة اقتصاديات الدولة، لذلك سوف تنجح أيضاً في إدارة الدولة، وإن كان بعضهم يعتقد أن "المرأة" هي الحاكمة الفعلية الآن، حتى ولو كان الحاكم رجلاً.
قرأت في كتاب مترجم عن أحد الأنظمة العربية، أن حاكم هذا البلد يهتم اهتماماً كبيرا بالنساء، ويقدر القوة الكامنة فيهن، لذلك فإنه يجتمع كل يوم اثنين بسيدات وفتيات العائلة المالكة، يستمع إليهن، ويتحاور معهن، ويستطلع آراءهن، تقول النجمة العالمية باميلا أندرسون: "النساء هن من يحكمن العالم، ويبدو أن الرجال لم يتعرفوا على هذه الحقيقة بعد".
بعد انتهاء الرحلة بأيام سمعت في التلفاز خبراً عن انفجار عربة في أحد شوارع كوبنهاجن، ذكر الخبر أن أي جهة لم تعلن مسؤوليتها عن الحادث .. أزعجني ذلك، ولكن يبدو أن لكل نظام معارضوه ..
أدهشني "إميلين بورج" بمبانيه العريقة، وميادينه الفسيحة التي يتجول فيها التاريخ.. عندما تتجول فيه تتلمس التاريخ، تسمع نبض أنفاسه، في وسط الميدان قاعدة كبرى عليها تمثال بالحجم الطبيعي؛ فارس يمتطي حصانه، ويرفع يده الممسكة بالسرج. أحد الشوارع التي تتخلل القصر ينتهي بمبنى رائع لكنيسة ( ) الشهيرة والتي تتميز بالنقوش البديعة والفنون المعمارية .. جو يوحي بالأساطير، تذكرت قصة هاملت التي دارت وقائعها على هذه الأرض، لفت نظري أيضاً مشهد الحرس الملكي التقليدي الواقف أمام القصر، والطريقة التي يبدلون فيها نوبات الحراسة، ومشهد تبديل الحرس السياح بتقليديته وطرافته.
القصر عبارة عن عدة مبان تأخذ شكلاً شبه دائري، لتكون في وسطها ميداناً كبيراً، والقصر مطلي من الخارج باللون الرصاصي، أما الأبواب فمطلية باللون الزيتي، هناك جزء من القصر مغطى بقماش أبيض في إشارة إلى أنه تحت التطوير أو التعديل أو الطلاء، للقصر أبواب كثيرة، كل باب يبلغ ارتفاعه حوالي أربعة أمتار، وعرضه حوالي ثلاثة أمتار، على كل باب كشكان خشبيان طويلان للحراسة، لونهما أحمر داكن، ينتهي كل كشك من أعلى بنهاية هرمية، تعلوها سن خشبية مدببة بيضاء اللون، وعلى الجزء الهرمي رسم للشعار الملكي باللون الأبيض.
يقف الحارس عادة أمام ها الكشك، أما في حالة المطر أو الثلوج فيقف داخل الكشك، وعلى كل جانب من جوانب الباب يوجد حامل من الحديد المزخرف ينتهي بصندوق إضاءة يضاء في المساء.
يرتدي الحارس الزي الملكي التقليدي الذي يعتبر جزءاً من تراث المملكة لم يتغير منذ سنوات بعيدة، ويتكون من بنطلون زيتي اللون على جانبيه شريطان أبيضان، وبدلة سوداء في صدرها صفان أماميان من الأزرة فضية اللون، ويرتدي الحارس على صدره حزاماً عريضاً أبيض يحيط بالصدر والظهر، ويعلق أسفل الظهر حافظة سوداء لحفظ الذخيرة، أما الحذاء فهو أسود اللون يشبه "بيادة" الجنود المصريين، بينما يعلق في الخلف سيفاً تقليدياً.
ويحمل الحارس البندقية في يده اليمنى، يقبض عليها باليد من "الدبشك" في حالة المشي، وعند الوقوف يضع مؤخرة البندقية على الأرض، ويمسكها باليد من ناحية الماسورة، ويضع الحارس على رأسه غطاء الرأس العالي التقليدي ذا اللون الأسود والمصنوع من قماش يشبه الفرو، ولا أدري سر علو غطاء الرأس بها الشكل، وإن كنت أتذكر أن لدينا في مصر فلاحون في بعض المناطق مثل "أبيس" قرب الإسكندرية يرتدون الطاقية العالية، والتي لا نعرف السر منها أيضاً، أيضاً يرتدي هذه الطاقية العالية نفسها أتباع الطريقة المولوية في تركيا، وتسمى "السكة" ، وهي عبارة عن طربوش مرتفع مخروطي السطح. داخل الكشك بالطو معلق، يرتديه الحارس عندما يستدعي الأمر ذلك، وهو عبارة عن رداء أحمر اللون سميك، الجزء العلوي منه والذي يغطي منطقة الكتف أخضر اللون.
في حوالي العاشرة صباحاً من كل يوم يبدأ مشهد تغيير الحرس. فيخرج من أحد الأبواب سبعة حراس جدد، يمشون في خطوة عسكرية صارمة، ويقومون باستعراض بسيط في الميدان ذهاباً وإياباً، ثم يقابلون الحراس السبعة الآخرين، ويقومون باستعراض جماعي في الميدان، ثم يتبادلون الحراسة مع الفريق القديم الذي يغادر مكانه بعد تسليم مهمة الحراسة، ويقوم باستعراض بسيط هو الآخر، وينتهي به الأمر للدخول إلى أحد أبواب القصر، أما الحراس الجدد فيدخلون أيضاً داخل القصر ما عدا حارس واحد عند كل باب يقف للحراسة الخارجية.
وعلى مدار اليوم يخرج قائد الحرس، وهو بالطبع ذو رتبة أعلى كل فترة، ويمر على الحرس بالتوالي، ويلاحظ أنه يمشي المشية العسكرية الصارمة نفسها، وعندما يتكلم مع الحارس يتكلم بلهجة عسكرية عالية، ومن الواضح أن هناك تقاليد في الوقوف والمشي والكلام أيضاً لدى الحرس الملكي.
من التقاليد التي لاحظتها أن الحرس الملكي غير مسموح له بالحديث مع غيره أثناء الحراسة، عندما اقتربت من الحارس، واستأذنته لكي ألتقط له صورة، لم يرد، وإنما أشار بإيماءة تعني الموافقة، وإذا أردت التقاط صورة لك مع الحارس لا تقترب منه، وبالطبع لا تضع يدك على كتفه، وإلا دفعك بيده الغليظة كما حدث مع أحد السياح، فهذا غير مسموح، فقط يمكنك الوقوف على بعد متر بجواره.
أما إذا وجدت رئيس الحرس يمر على الحراس، وطلبت التقاط صورة له، فسيتعذر باللهجة العسكرية العالية نفسها، ويخبرك أن ذلك ليس مسموحاً له الآن.
عشرات السياح يتجمعون كل صباح لمشاهدة هذا المشهد التقليدي لتبديل الحرس، سياح من اليابان وإيطاليا وأمريكا وغيرها، منهم من يستخدم كاميرا فوتوغرافية، ومنهم من يستخدم كاميرا فيديو في تصوير المشهد التقليدي الغريب، استأذنت رجل الشرطة الذي يشرف على تنظيم السياح بعيداً عن المراسم التي تقام أمام القصر، وأخبرته أنني صحفي ولست سائحاً وطلبت منه أن يسمح لي بالدول للتصوير عن قرب، فأشار لي بالاقتراب، والتقطت صوراً مهمة. رحت أتجول وأتفقد القصر من الخارج، وألتقط الصور، وتمنيت لو أتمكن من الولوج داخل القصر لاكتشاف ما به، وكأنما استجاب الله لرغبتي، فبينما أنا أتجول وجدت على أحد الأبواب الرئيسية للقصر حاملاً عليه لافته حمراء عليها عبارة (متحف القصر)، تهللت أساريري وسارعت في الدخول.
عندما تدخل ستجد على يمينك سلماً نازلاً يؤدي إلى ما يشبه البدروم، به مكان للبيع أو ما يشبه ذلك، تباع فيه الكتب التي تتحدث عن التاريخ الدنماركي، والملكة والأسرة المالكة، كتب تتحدث عن القصر الملكي ومحتوياته، كذلك بطاقات سياحية ونشرات وأقراص مدمجة، وتذكارات، كلها عن القصر والعائلة المالكة والأماكن السياحية بالدنمارك.
من هذا المكان يمكنك أن تحصل على تذكرة الدخول وقيمتها 10 كرونات، بعد ذلك ستصعد سلماً يؤدي إلى الجزء المخصص للزوار كمتحف من القصر، حيث خصصت المملكة جزءاً من القصر كمتحف يستطيع السياح زيارته، ليس متحفاً منفصلاً، ولكنه جزء من القصر الملكي نفسه، الديكور والألوان والمحتويات نفسها.
يتكون المتحف من بعض الحجرات، وهي مكتب وسفرة ومعيشة، تربط بينهما طرقات واسعة، تتدلي من الأسقف ثريات كبيرة فاخرة .. هنا زاوية بها بيانو الملكة تعلوه صورة زيتية لها ..وصورة لشوبان، مكتبها وصورها الخاصة وهداياها، رسائلها الشخصية، هنا الأزياء الملكية التقليدية، علب أنيقة، محافظ، طفايات سجائر، بايبات "جمع بايب"، كتب قديمة مرصوصة أفقياً، بطاقات معايدة ملكية عليها رسوم جميلة، رسائل خطية، عدسات مكبرة، فتاحات ظروف، كريستالة، أباجورات، براويز أنيقة، كرة أرضية، كراسي، مدفأة بيضاء، لوحات زيتية لفرسان، قلائد وميداليات عليها صور أفراد من الأسرة المالكة، أواني زهور، سيوف، وبنادق قديمة الطراز، مراوح يدوية، شطرنج، دومينو، طاولة وزهر، شمعدانات، ساعات، تماثيل نصفيه وكاملة، لوحات زيتية بمختلف الأحجام للملكة والأمراء والأميرات وأخرى للأسرة المالكة كاملة، صورة للملكة بزيها الرسمي .. فستانها الرمادي وترتدي وشاحها الملكي، صور كثيرة بالأبيض والأسود لأفراد من الأسرة المالكة بأزياء مدنية أحياناً وعسكرية أحياناً أخرى، مكاتب تقليدية فخمة، ستائر ملكية حمراء مطرزة بنقوش بديعة.
هنا وقعت أخطر القرارات في تاريخ الإمبراطورية الدنماركية، هذه السيوف والبنادق تحكي قصص المعارك القديمة التي دارت على هذه الأرض، تذكرك بصليل السيوف، وطقطقة البنادق، وصيحات الفرسان، وأنات الجرحى، تذكرك بالثورات والفتوحات، المراسم والطقوس، العدل والظلم، المملكة والشعب.
في إحدى ردهات القصر يقابلك تمثال من الرخام لرجل وامرأة عاريان، صور عائلية عدة بمختلف الأحجام تحكي قصة العائلة المالكة، هنا صور خاصة للملكة بملابس المنزل، وهي تمارس هوايتها، وهي هواية الرسم بالقماش الملون، وكأنها تقول بذلك : "أنا من الشعب"، هنا التاريخ يقابلك في كل ركن وكل زاوية.
فكرة رائعة أن تخص المملكة جزءاً من القصر الذي تدار منه البلاد ليكون متاحاً للمواطنين، يدخلونه بسهوله لكي يتعرفوا على تاريخ بلادهم، والملكة التي تحكمهم، ويشاهدون بأنفسهم مكتبها وسفرتها وأشياءها الخاصة، يعرفون عن قرب كيف تعيش، ويتلمسون بأنفسهم كيف أنها أسرة عادية كأي أسرة من الشعب، كان لها موعد مع التاريخ، ويتحطم بذلك الحاجز النفسي الموجود بين الحاكم والمحكوم، بين وهج السلطة والشعب. الأمر نفسه يحدث في أمريكا، حيث يتاح للطلبة والمواطنين زيارة البيت الأبيض مقر الحكم ويتيح لبعض الشباب التدرب فيه.
بعد مغادرتي المملكة بأيام وصلتني بالبريد رسالتان الأولى من السير هاسلندر كريستنس كبير اللوردات بالقصر الملكي، والثانية من السيدة اليزابيث جيرنر نيلسن وزير الثقافة الدنماركي تقول الرسالة الأولى :
AMALIENBORG PALACE, September 19.2000 H.A.Nr. 1280/001021 Mr. Al Amir Kmal Farag Managing Editor Her Majesty the Queen has requested me thank you for jind let-ter, dated September 6,2000 and the copies of your magazines and books which the Queen washappy receive. Unfortunately I have to inform you that because if many engagements the Queen will not be able to receive you for an interview this year. Yours sincerely S. Haslund Chamberlain Lord Chamberlain
وترجمتها هي : قصر إميلين بورج – 19 سبتمبر 2000 صادر رقم 1021/00/1280
السيد / الأمير كمال فرج طلبت مني جلالة الملكة توجيه شكرها لكم على خطابكم الرقيق المؤرخ في 6 سبتمبر 2000 ، والمرفق معه نسخة من مجلاتك وكتبك، وقد سعدت جلالتها بها كثيراً. ويؤسفني أن أخبركم بأن جلالتها لن تتمكن من استقبالكم خلال هذا العام لإجراء مقابلة صحفية نظراً لوجود كثير من الارتباطات العديدة السابقة. المخلص السير هاسلندر كريستنس وتقول الرسالة الثانية : MINISTER FR CULTURE 2NYBROGAD P.O.BOX 2140 DK- 1015 COPENHAGEN K 2 OKT. 2000 Mr. Al Amir Kmal Farag Managing Editor Dear Al Amir Kmal Farag Thank you for your letter and the books of 7 September 2000. I regret that I will not have time enough in my calendar for interview. I enclose two publications abut the Danish culture, which you may be will find interesting. Please do not hesitate to write me a letter the next time you are in Denmark. Your sincerely Elsebeth Gerner Nielsen
وترجمتها : وزارة الثقافة 2 نيبروجاد ص ب 2140 الدنمارك 1015 كوبنهاجن 2 أكتوبر 2002
عزيزي الأمير كمال فرج أشكرك على رسالتك والكتب التي أرسلتها في 7 سبتمبر، يؤسفني جداً بأنني لم أجد وقتاً كافياً في جدول أعمالي للحوار الصحفي. مرفق لسعادتكم نشرتين عن الثقافة الدنماركية التي ربما تجد فيها متعة. الرجاء عدم التردد في الكتابة إليّ في وقت آخر عندما تكون في الدنمارك. المخلصة اليزابيث جيرنر نلس ترى لو أرسل أحدنا لرئيس أو وزير يطلب فيه مقابلته .. ماذا يحدث ..؟