أعترف أنني تعلمت الأدب، وعرفت أن "الله حق"، بعد المكابرة، والعنطزة الفارغة، وأدركت أخيرا ـ بالتجربة ـ قيمة ما تفعله الزوجة .

دعك من التنظير والجمل الإنشائية التي تلوكها الندوات عن "مكانة المرأة"، فمهما قلت ، ومهما عملت ، .. لن أتمكن من وصف هذا الكيان الجميل النبيل الذي يملأ حياتنا رحمة، وعطف، ونبل، وعطاء وهي "الزوجة".

سافرت "أم المعتز" إلى القاهرة أياما للكشف الدوري على ابننا الصغير "عمر"، فتحملت أخطر مسؤولية يمكن أن يتحملها بشر، وهي تربية الأبناء ، ..  بعد أعوام طويلة من الرحرحة، والشخط، والنطر، وجدت نفسي أخيرا مضطرا لأن أنزل من برجي العاجي، وخلال ساعات كنت أفعل كل شيء ، إعداد الطعام، وغسيل الملابس، والأطباق، والطبخ، وترتيب المنزل، والإشراف على مذاكرة الأولاد، والتدخل لفض نزاعاتهم الطفولية الطريفة.

صراخ ... يابابا ..، محمد : حبيبة ضربتني .. حبيبة : هو اللي ضربني الأول، المعتز : حبيبة بتغيظني ، أأأأأأأأأأأأأأأأأه، هذه عينة من معارك كل يوم التي لا يمكن السيطرة عليها، لا شخط نافع ، ولا حوار ، ولا مسايسة، نزاعات تحتاج إلى قوة للتدخل السريع من الأمم المتحدة.

فجأة وجدت نفسي مسؤولا مسؤولية كاملة عن تلبية أوامر ثلاثة أشخاص مهمين جدا، أوامر نافذة لا يمكن تجاهلها ، .. حتى لو طلب أحدهم لبن العصفور .

"المعتز"(12 عاما) يريد ماكس فوود، و"حبيبة" (10 أعوام) تريد قطع دجاج استربس، و"محمد" (8 أعوام) لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، من هنا كان الطعام مشكلة كبيرة، خاصة وأن الأكلة الوحيدة التي أجيد عملها هي "المكرونة".

"محمد" يشبه "دكر البط" يجب أن "تزغطه" بنفسك.. ، كانت جدتي "سنية" ـ رحمها الله ـ تجلس في حوش المنزل، وتلوي عنق دكر البط وتزعطه، و"التزغيط" إطعام قسري، يتم بإدخال حبات الفول بين منقاري البط، وإدخالها بالإصبع ثم تمريرها بالضغط على الرقبة، حتى تنزل المعدة، ورغم أن "التزغيط" يتعارض مع حقوق الانسان ـ أقصد البط ـ، إلا أنه ينفع عندما يرفض الصغار الطعام.

كانت هذه المشكلة هاجسي الأكبر، وكثيرا ما تركت عملي وقت الغداء لأتوجه إلى المنزل الذي يبعد 30 كيلو بأقصى سرعة، فقط لأجلس بجوار أبنائي، وأطمئن أن كل منهم تناول وجبه تبقيه على قيد الحياة، وفي آخر الليل أتسلل على أطراف أصابعي لأطمئن أن كل منهم يتنفس، أما "محمد" فقد كنت أجبره على تناول 2 زبادي كل يوم .. حد أدنى من العناصر الغذائية.  

وياليت الأمر اقتصر على ذلك، فقد أصبحت بمفردي في مواجهة الأسئلة المحرجة، "محمد" يسألني عن موضوع في كتابه، أبحلق في الكتاب فأكتشف أنه بالإنجليزي، أما المعتز فيسأل عن السنة والشيعة!.

اكتشفت أخيرا أن تاريخنا الاجتماعي كاذب، وأن الثقافة العربية لم تعلمنا سوى العنف الأسري حتى ضد أقرب الناس إلينا ..، وأن "سي السيد" لم يكن سوى حمار كبير لم يدرك قيمة ينبوع العطف والحنان والرحمة والرقي والاحتواء والإيثار المسمى "أمينة".

خدعوك فقالوا أن الرجل أفضل من المرأة، وأنه هو الذي يعمل ويكد من أجل أن يأتي بالأموال ، ولكن الحقيقة أن الزوجة هي منبع العطاء الحقيقي، بدونها لا ينهض بنيان لا فرد ولا أسرة، .. ، ولو أحضر الرجل لزوجته كل يوم فرقة حسب الله لتعزف أمام المنزل ، لن يوفيها 1% من حقها.

 بعيدا عن البحوث والدراسات الاجتماعية وحذلقة الأكاديميين، خرجت من هذه التجربة الجميلة المزعجة في ذات الوقت بنتيجة مهمة، وهي أن "التربية" أصعب مهمة على وجه الأرض .